اليمين المتطرف في أوروبا.. من الهامش إلى قلب السياسة

03 ديسمبر 2023
03 ديسمبر 2023

ترجمة ـ قاسم مكي -

انتصار خيرت فيلدرز في الانتخابات جاء بعد أمد مديد. قابلتُ هذا السياسي النيذرلاندي في عام 2004 عندما كان يستعد لتدشين حزبه السياسي. وقتها جعَلَت منه تصريحاتُه المنددة بالمسلمين والمهاجرين شخصا مغضوبا عليه وأصبح معتادا على العيش في بيوت آمنة ومحاطا بحراس شخصيين.

الآن وبعد عقدين لاحقا تحول فيلدرز من لاعب صغير إلى زعيم. فحزب الحرية الذي يقوده حصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات النيذرلاندية الأخيرة. لكنه رغم ذلك سيعاني لتشكيل حكومة ائتلافية وتولي منصب رئيس الوزراء. غير أنه حقق اختراقا غير مسبوق.

نجاحه الانتخابي جزء من نموذج يتكرر بوضوح في عموم أوروبا. فالجماعات السياسية التي كانت تُعتبر في الماضي أحزابا يمينية متطرفة وهامشية تكتسب شعبية وفي بعض البلدان نفوذا.

فرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان هو الآن الزعيم الذي قضى أطول مدة في رئاسة الاتحاد الأوروبي. وجورجيا ميلوني أكملت لتوِّها أول عام لها كرئيسة وزراء لإيطاليا. وروبرت فيكو الشعبوي الذي يتودَّد إلى قضايا اليمين المتطرف يعود رئيسا لوزراء سلوفاكيا. والديمقراطيون السويديون هم الآن ثاني أكبر حزب في البرلمان ويؤيدون التحالف الحاكم.

كما يكسب اليمين المتطرف المزيد من النفوذ في ألمانيا وفرنسا. فحزب البديل لألمانيا يحصل بانتظام على 20% من الأصوات في الانتخابات مما يجعله ثاني أكثر الأحزاب شعبية في ألمانيا. وفي زيارة له مؤخرا إلى لندن أخبرني فرانسوا أولاند الرئيس الفرنسي السابق أن «اليمين المتطرف ابتلع اليمين التقليدي» في بلده. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن مارين لوبان قد تفوز أخيرا بالرئاسة الفرنسية في عام 2027.

كل هذا حتما يستعيد ذكريات ومخاوف الكيفية التي دمر بها اليمين المتطرف الديمقراطية في سنوات ما بين الحربين (بين نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918 وبداية الحرب العالمية الثانية في 1939 - المترجم). لكن الأدلة حتى الآن تشير إلى أن اليمين المتطرف الأوروبي الحديث يمكن أن يمارس العمل السياسي ضمن الأنظمة الديمقراطية دون أن يقضي عليها.

في أستراليا وإيطاليا جاءت الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة كجزء من الائتلافات الحاكمة ثم تنازلت عنها إما بعد انتخابات أو بعد فضائح. فحزب القانون والعدالة البولندي فقد نفوذه في الانتخابات الأخيرة ومن المؤكد تقريبا أن يتخلى عن السلطة.

لكن المسار السياسي لأوربان يكشف خطورة الاستهانة باليمين المتطرف. فقد عاد إلى السلطة في المجر عام 2010 ولا يزال رئيسا للوزراء بعد أن قوض استقلال القضاء ووسائل الإعلام. أيضا قد تغري الانتخابات الرئاسية الأمريكية اليمين المتطرف في أوروبا للاقتداء بخطاب وأساليب دونالد ترامب بما في ذلك التشكيك في نتائج الانتخابات والتشجيع على عنف الشارع وتأييد الترحيل الجماعي للمهاجرين.

لكن اتِّباع نموذج ترامب - أوربان سيكون صعبا لأمثال فيلدرز وميلوني ولوبان. فالزعيم المجري كانت لديه أغلبية برلمانية كافية للدفع بالتعديلات الدستورية التي حولت النظام لمصلحته. غير أن ميلوني جزء من حكومة ائتلافية. كما سيواجه فيلدرز نفس العوائق. بل حتى رئيس فرنسا يمكن أن يعاني لكي يحقق ما يريده دون جمعية وطنية مطيعة.

لكن حتى إذا لم تُحدِث أحزاب اليمين المتشدد في أوروبا انقلابا على الديمقراطية يمكن أن تفرض برامجها على الحوار السياسي العام. وما يشكل أوضح سِمَة تشترك فيها هذه الأحزاب عداؤها الشديد للمهاجرين وخصوصا المسلمين واستعدادها للنظر في إجراءات كانت تُستبعد في السابق باعتبارها غير عملية أو لا تطاق أو غير قانونية.

التصاعد الحالي في وتيرة الهجرة القانونية وغير القانونية إلى أوروبا يفسر إلى حد بعيد التأييد الذي تحصل عليه أحزاب اليمين المتشدد. وهذا ما قاد العديد من ساسة التيار السائد بما في ذلك في نيذرلاند وفرنسا إلى المطالبة بإجراء تخفيضات حادة في معدلات الهجرة.

تجسد تجربة ميلوني صعوبة تنفيذ ما يَعِد به هذا النوع من الخطاب. لقد عجزت عن وقف ازدياد حاد في عدد المهاجرين الذين يصلون إلى إيطاليا بالقوارب. وفي الوقت ذاته توجب عليها الإقرار بأن إيطاليا تحتاج إلى العمالة المهاجرة وزادت من عدد التأشيرات للعاملين من خارج الاتحاد الأوروبي.

إلى ذلك، تمثل ميلوني حالة غير عادية وسط اليمين المتطرف الأوروبي بمناصرتها القوية لأوكرانيا. بالمقارنة دفع كل من أوربان وفيلدرز وفيكو ولوبان وحزب اليمين من أجل ألمانيا وحزب الحرية النمساوي باتجاه التوصل إلى تسوية مع روسيا تحت زعامة فلاديمير بوتين. وإذا ازداد نفوذهم في بروكسل سيكون ذلك خبرا سيئا لكييف.

يتخذ اليمين المتطرف أيضا وباستمرار موقفا معاديا للاتحاد الأوروبي ويصفه بأنه مشروع نخبوي يدعو إلى العولمة ويشكل خطورة للهوية الوطنية ويحبذ الهجرة الجماعية.

لقد سبق أن تحدث فيلدرز ولوبان عن إخراج بلديهما من عضوية الاتحاد الأوروبي أو العملة الأوروبية الموحدة. لكن هذه الأفكار لم تعد تستهوي الرأي العام ربما بفضل تجربة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست). لذلك هما الآن يقللان من شأن الحديث عن خروج نيذرلاند وفرنسا من الاتحاد. وولع أوربان بالتنديد ببروكسل لم يُترجم أبدا إلى أي تحرك حقيقي لمغادرة الاتحاد الأوروبي.

وبدلا من تخليها عن الاتحاد من المرجح أن تحاول أحزاب اليمين المتطرف تغييره من الداخل. لقد بدأت سلفا في استهداف قوانين الاتحاد الأوروبي الخاصة بحقوق الإنسان والتزامه بمعاهدة الأمم المتحدة للاجئين.

إذا استمر اليمين المتشدد في تحقيق مكاسب مهمة في الانتخابات الوطنية وفي انتخابات عضوية البرلمان الأوروبي في الصيف القادم ربما سيكون عما قريب في وضع يمكنه من تقويض القيم والتعهدات القانونية التي اعتبرت منذ فترة طويلة مركزية للمشروع الأوروبي. وقد يكون الاتحاد الأوروبي كيانا مختلفا جدا بعد سنوات قليلة من الآن.

جيديون راكمان كبير معلقي الشؤون الخارجية بصحيفة الفاينانشال تايمز

الترجمة خاصة لـ عمان