بومة مينيرفا وطائر الفينيق: العقل والحكاية

30 ديسمبر 2025
30 ديسمبر 2025

هل يستطيع الإنسان أن يُفكّر دون أن يحكي؟ ولماذا تحتاج الفلسفة إلى الحكاية، كما يحتاج القصص إلى فكرة؟ لقد عَلق القصص بمختلف أجناسه وأنواعه بواقع الحياة عبر تاريخه الطويل، شفويًّا كان أو مكتوبًا، يُلامس حياة الإنسان ويحتمل متخيّله ويفتّح له عوالم ممكنة شاسعة. غير أنّ فعل القصص لم يقتصر على اليوميّ والواقعيّ، بل نفذ إلى الفكر والمنطق والعقل، حتى أمكن القول إنّ فعل القصّ هو فعلٌ فلسفيّ بالأساس، كامنٌ في جوهر الفلسفة ذاتها. فاللوغوس (العقل) متواشج منذ البدء مع الميتوس (الأسطورة)، من حيث هو فعل حكاية وتمثيل، علوقًا بالأسطورة التي شكّلت النواة الأولى للفكر اليوناني. ولم تكن الفلسفة اليونانية سوى أساطير تفلسفت، أو حكايات أُعيد التفكير فيها بعين العقل. ولعلّ أمثولة الكهف الأفلاطونية خير مثال على حضور الحكاية أصلًا وجوهرًا في التفكير الفلسفي.

فهذه الأمثولة، التي تصوّر جماعة رُبطوا إلى جدار كهف طوال حياتهم، لا يرون من العالم إلاّ ظلالًا تنعكس على الجدار فيحسبونها حقائق، لم تكن مجرّد مثال توضيحي، بل كانت الصيغة الوحيدة التي استطاع أفلاطون من خلالها أن يعبّر عن فكرته الجوهرية في الحقيقة، بوصفها نتيجة تعوّد على الوهم. لقد لجأ إلى الحكاية طريقًا للبيان والإظهار، لأنّ الفكرة المجرّدة وحدها تقصر على زعزعة يقين الإنسان. وهذا المسار لم يكن استثناءً أفلاطونيًا، بل نهجًا عامًّا في الفلسفة اليونانية، التي، رغم تباين مواقفها من الأدب بين تقريبٍ وتبعيد، لم تُقصِ الحكاية، بل أجرتها تمثيلًا للعقل. فالأسطورة، في جوهرها، حكاية تتأسّس على تخييل إدراك الوجود، ومن رحمها وُلدت الفلسفة وهي تحكي. ولم يخرج الفكر الفلسفيّ العربي عن هذا التجانس العميق بين العقل والتخييل، بين المنطق والعوالم الممكنة، بين الفلسفة بوصفها حبًّا للحكمة والسرد بوصفه تمثّلًا وإعادة صياغة للوجود.

يتجلّى ذلك في اعتماد عدد من الفلاسفة والمفكّرين العرب على الحكاية أداةً للتفكير والتمثيل. فابن المقفّع، في نظريّاته السياسية، لم يكن وهو يعبّر عنها بواسطة الحيوان إلاّ حكّاءً حكيمًا، يُنجِّم أفكاره في حكاية مثليّة أصبحت نموذجًا لسرد كونيّ يُنطق الحيوان ويُحمّله ما يعجز البشر عن قوله صراحة. كما سنّ ابن طفيل، الفيلسوف والطبيب والفلكي الأندلسي، طريقًا للسرد الفلسفي في قصّته «حيّ بن يقظان»، التي ظلّت واحدة من أعمق تمثّلات السؤال الوجودي في الثقافة العربية، وسلك الغزالي مسلكًا قريبًا في «منطق الطير».

هكذا تكوّنت الفلسفة العربية أيضًا وهي تقصّ القصص. أمّا في العصر الحديث، فقد تعمّق هذا التداخل بين الفلسفة والسرد بعد أن فقدت الفلسفة ثقتها بالميتافيزيقا الشاملة، وحوّلت مسارها من البحث عن الحقيقة المطلقة إلى التفكير في كيفيّة عيش الحقيقة. ومع انهيار العقل الفلسفي النسقي، وجد التفكير نفسه مضطرًا إلى الاستعانة بالحكاية، سواء عبر شخصيات فلسفية متخيّلة، كما في «زرادشت» مع نيتشه، أو عبر السرد بوصفه أفقًا لفهم الإنسان. وهنا لم تعد الرواية مجرّد جنس أدبي، بل أصبحت فضاءً لطرح أسئلة الوجود والذات والزمن والذاكرة والشرّ والخير، وهي الأسئلة الكبرى التي عجزت الفلسفة عن بسط أجوبتها النهائية. حلّت الرواية لتعيد للإنسان نضارته، وحكايته الكبرى، تلك التي مثّلها «حيّ بن يقظان» وهو يقف وحيدًا في غابته، يسأل عن الوجود وعن مُوجِده وعن مصير الإنسان وجوهره.

لقد استبدلت الروايةُ العقلَ المجرّد بالعقل المتخيّل، وانغمست في الحكاية لتُمثّل وجود الإنسان الذي لا يُعقْلَن كاملًا. وقد تنبّه بول ريكور إلى هذا العمق حين جمع تنظيريًا بين الفلسفة والسرد، خاصّة في مقاربته للتاريخ بوصفه حكاية تُروى بقدر ما يُفهم.

ظلّت الفلسفة، في عمق مسارها، تبحث عن الحقيقة التائهة، وتسعى إلى فهم الإنسان والعالم من حوله، فانتهى كثير من مساراتها إلى العبثيّة، وانعدام اليقين، والسخرية من الثوابت. عندها بدا أنّ العالم في حاجة إلى معرفة وجوديّة لا برهانيّة، معرفة تخييليّة يُقدّمها القصص بوصفه سبيلًا إلى إدراك التجربة الإنسانية. لذلك، لم تعد الرواية مطالبة بالإجابة عن الأسئلة، بل بسردها، وباقتراح منظور لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل امتلاك حكاية ممكنة عنها. وقد بلغ هذا التراكم الفلسفي في الرواية أوجه مع آيريس مردوخ، التي أحسنت الجمع بين الفلسفة والحكاية، واستعادت فكر أفلاطون في أفق البحث عن الخير.

بعد كلّ هذه التحوّلات التي كشفت حضور الحكاية كيانًا أصيلًا في الفكر، وعمق الرواية في قضايا الفلسفة التي هي قضايا الإنسان، يحقّ لنا أن نتساءل عن موقع هذه الثنائية في الرواية العربية الحديثة؟ لعلّ أحد أسباب ضعف هذا الحضور أنّ العالم العربي لم ينجح بعد في بلورة مشروع فلسفيّ جامع، ولذلك ظلّ السؤال الفلسفي محدود التداول. أمّا الرواية، فقد انشغلت في معظمها بالواقع والتاريخ، ولم تحمل الحمولة الفلسفية الوجودية إلاّ في نماذج قليلة، مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيّب صالح في مساءلة العلاقة بالآخر، أو «فساد الأمكنة» لصبري موسى في سؤال المكان، وتسخير الأسطورة، أو روايات عبد الرحمن منيف في نقد السلطة، ولم تتجلّ الخلفية الفلسفية عند نجيب محفوظ بوضوح إلاّ في «أولاد حارتنا»، على أصل تكوينه الفلسفي.

خلاصة القول، نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى خيال فلسفيّ حكّاء يُعيد لَمَّ ما تناثر من الوجود. فإذا كانت الفلسفة، وفق التصوّر الهيغلي، شبيهة ببومة مينيرفا التي لا تطير إلاّ عند الغسق، فلا تدرِك المعنى إلاّ بعد اكتماله، فإنّ الرواية تمتلك قدرة أخرى: أن تصنع عوالم، وأن تولد من الاحتراق ذاته. إنّها طائر الفينيق، الذي لا يحيا إلاّ حين ينهض من رماده.