2026 بلا وعود كبيرة

30 ديسمبر 2025
30 ديسمبر 2025

مراجعة عام بين الخسارة والمعنى وبين الإبداع بوصفه موقفًا لا إنجازًا 

لأن العام الذي مضى لا أريد أن أختصره فيما أُنجز فقط، ولا فيما تعثّر، بل فيما كشفه عني وعن العالم من حولي. أعود إليه كتجربةٍ معيشة: بخساراتٍ صغيرة أعادت ترتيب الأولويات، وبالتعب الذي صار لغةً داخلية أكثر من كونه عارضًا مؤقتًا، وبعلاقاتٍ تغيّرت أو انكشفت حين اختُبرت خارج المجاملة. أعود إليه أيضًا من موقع الكتابة والعمل والتقاعد، متسائلة عمّا تبدّل في علاقتي بالإبداع، وبالمكان والناس والوجود، وكيف صار سؤال الاستمرار أهم من سؤال الإنجاز. وفي ظل عالمٍ مثقلٍ بالأحداث الاجتماعية والاقتصادية، أبحث عن معنى الموقف بين العجز والإنسانية. من هنا، لا أستقبل عامًا جديدًا بوعدٍ كبير، بل بنيّة المراجعة، وبالرغبة في أن أكون أكثر صدقًا مع ما أريده فعلًا، وأقل قسوة على ما لم يتحقق.

دأبتُ على وضع خطاطة لكتبٍ أنوي قراءتها، ومشاريع مقالات أراجعها لأُنجزها. ثم يعود السؤال كمرآة: ما الذي انتهى من ذلك؟ هل أنجزتُ ما وعدتُ نفسي به؟ في يناير 2025 بدأتُ العام بمقالة عن «روح السينما»، وأختمه في ديسمبر بمقالة عن «الرمز بين التخييل والتلقي في الجدل حول الست». تلك المسافة الطويلة: هل كانت مسلكًا مميزًا في الاقتراب من روح الصورة؟ أم أنها قادتني -على نحوٍ غير مخطط- إلى أهدافٍ أخرى؟

تبيّن لي أن المنطلقات الأولى لم تسِر في خط مستقيم، وأن ما حسبته خطة» كان في الحقيقة طريقًا يتفرّع كلما ظننتُه يستقيم. غير أن النقطة المحورية تمظهرت في محاولة اقتفاء أثر الراحلين عمومًا، من مسرحيين وسينمائيين غربًا وعربًا، والنظر في آثارهم النظرية والجمالية، لا بوصفها ذاكرةً مغلقة، بل اختبار لما بقي حيًا في اشتغال الكلمة والصورة اليوم.

لم تكن العودة إلى مسرحيين وسينمائيين راحلين التفافًا على الحاضر، بل مساءلة له: ماذا بقي من جرأتهم في خطاب اليوم؟ وما الذي خفّ وزنه حين غاب الذين كانوا يصوغون الكلمة والصورة بوصفهما موقفًا لا زينة؟

ظل يُخيّل إليّ أن روح السينما لا تخجل من التشكّل في روح المسرح. للمسرح صورته وهو يشتبك مع الحدث، في التاريخ القديم أو المعاصر، لا كمرآةٍ محايدة، إنما كصورةٍ حيّة تتعثّر وتنهض داخل جسدٍ أمامنا. وكأننا نسير في حديقةٍ غنّاء مليئة بالألوان والأضواء، وشيءٍ من الإكسسوارات التي تُغري بسدّ الفراغات، لكنها قد تُخفي الفراغ بدلا أن تُضيئه.

من هنا، حاولت فتح أفق التأمل فيما مضى من النتاج المسرحي الذاتي، وتكرار السؤال النقدي عمّا يتفرّد به المسرح عن السينما والفنون التشكيلية والرقصات الشعبية، والأشكال ما قبل المسرحية. المسرح فنّ عابر وزائل في آن، ولذلك يضع الكاتب أمام اختبارٍ مضاعف: كيف يُقيم معنىً في فنٍّ يمرّ سريعًا؟ وكيف يُنقذ من الزوال ما يستحق أن يبقى؟ الكتابة المسرحية ليست زهدًا ولا ترفًا، بل مهنة شاقّة ما عبر عن ذلك المخرج الراحل حاتم علي. ثمة فارق وجودي بين كتابةٍ تنطلق من شغفٍ وسؤالٍ وقلق وإحساس بمسؤولية نحو العالم الذي يواجه المحو، وكتابةٍ تتجه إلى المنفعة المادية الخالصة والحضور الزائف.

وحين يحاول النص المسرحي مقاربة أحداث العالم الخارجية -ويمدّها بتحليلات ودلالات وعلامات سيميائية مفارِقة- فهو لا ينفصل عن صوت الذات: طموحاتها وآلامها والظروف الخاصة المحيطة بها. يمتلك النص نزعتَه ونبرتَه، بما فيها السخرية التي تطال المؤسسات الرسمية و«هياكل الأصنام». ومع ذلك، لم تستطع طموحات الإبداع أن تمنع رصاصةً أو قذيفةً أو رشاشًا؛ وهو ما يفضح وهمًا نَفعيًا شاع طويلًا، مفاده أن الرؤى والمواثيق وحدها قادرة على تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي.

لم ينجح المسرح في خلخلة الأوهام التاريخية كما حُلِم له، لكنه نجح أحيانًا في صنع أوهامٍ جديدة؛ وهنا تكمن المفارقة. ولا يملك الإنسان أمامها إلا أن يعمّق قراءتها وتفكيكها، لإنتاج معنى جديد للمقاومة: مقاومة الوهم، ومقاومة الاستسلام معًا.

وفي مقابل ذلك، تتقدّم أسئلة المؤسسات والرقابة: تلك التي تراقب المؤلف وتمنع لفظةً أو صورةً أو خيالًا. يسبق سؤالُ المنع سؤالَ الحرية، ويُحاكم النص على الماورئيات والدين والأخلاق والأيقونات التاريخية، بل وعلى ما يحاكيه من لاوعي، فتتآكل استقلاليته الذاتية وتضيق مساحته الممكنة.

لهذا أعود إلى عام 2025 كما هو: منجزٌ كان جميلًا، وتعثرٌ كان كبيرًا، لكنه عام كشف قيمة أن يكون للإنسان تجربته المعيشية التي يستطيع أن يرويها؛ بخساراتها الصغيرة، وبطموحاتها الجديدة دون صخب. عام حاولتُ فيه أن أصوغ ما مضى في كتابةٍ تعطي الأولويات صوتها، وتمنح المعنى فرصةً ليولد من الداخل لا من الشعارات. ومن هنا، أستقبل 2026 بلا وعود كبيرة، بل برغبة أبسط: أن أواصل بصدق، وأن أكون أقل قسوة على ما لم يتحقق.

كل عامٍ والعالم بخير.