نورمبيرغ .. محاكمة الغالب والمغلوب
29 ديسمبر 2025
29 ديسمبر 2025
يعرض حاليا في دور السينما فيلم ( نورمبيرغ Nuremberg) للمخرج الأمريكي جيمس فاندر بيلت (1975) الذي شارك أيضا في كتابة السيناريو. يكشف الفيلم عن مواجهة نفسية حادة بين الطبيب الأمريكي دوغلاس كيلي (1912- 1958) مثّل دوره بامتياز الممثل الأمريكي المصري رامي مالك (1981) والمارشال النازي هيرمان غورينغ (1893- 1946) قام بدوره الممثل النيوزلندي راسيل كرو (1964)، الذي اشتهر بفيلمه المصارع عام 2000. يدور الفيلم حول حياة السجين غورينغ قبيل محاكمات نورمبيرغ الشهيرة، والتي استمرت عاما كاملا بين نوفمبر 1945م، وأكتوبر 1946م، حيث قُدِم (22) متهما نازيا إلى المحكمة التي أقامها الحلفاء بعد هزيمة الألمان.
تناول الفيلم جانبا من شخصية هيرمان غورينغ أبرز القادة النازيين، ومؤسس جهاز (الغيستابو)، والذي عمل في حكومات أدولف هتلر (1889-1945) وتولى قيادة سلاح الطيران منذ 1935م، ألقي القبض عليه في أبريل 1945م، ليقدم للمحاكمة التي أقرت حكم الإعدام، ولكن قبل يوم من تنفيذ الإعدام في 15 أكتوبر 1946م، انتحر بتجرعه للسم. في الفيلم يظهر غورينغ قبل تناوله السم بإخراج كبسولة السيانيد مرددا كلمة (ابراكادابرا) التي يرددها السحرة عند ممارسة خدعهم البصرية، والتي سمعها ذات مرة من الطبيب دوجلاس كيلي في إحدى زياراته له في الزنزانة، لكن الكبسولة وصلت إلى يد غورينغ عن طريق القائد النازي اريش فون دام باخ - زيلفسكي (1899-1972) الذي اعترف بذلك سنة 1951م. ذكرني مشهد الكبسولة في راحة يد القائد الألماني ببيت شعري للشاعر السوري محمد الماغوط (1930-2006) ورد في قصيدة « الفرح ليس مهنتي» يقول الماغوط: « مغرية كلمات الوداع.. مغرية .. مغرية كزجاجة السم في راحة القائد المنهزم».
بعد مشاهدة الفيلم تدور في البال عدة أسئلة، فإن كانت فكرة الفيلم تدلل على الإبادة الجماعية ومحاولة لتجريم النازيين وتبرئة الحلفاء، أو أن محكمة نورمبيرغ قد أسست لتمنع صعود أحزاب راديكالية عنصرية إلى السلطة، فإننا لا نصدق ذلك، والشواهد كثيرة منها أن الدول المشرفة على محكمة نورمبيرغ شريكة في الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، مثل فرنسا التي قتلت أكثر من مليون ونصف إنسان في الجزائر، وكذلك بريطانيا التي استعمرت واستعبدت شعوبا وقبائل في أفريقيا وآسيا، و ينسحب ذلك أيضا على الولايات المتحدة التي أبادت سكان مدينتي هيروشيما ونكازاكي، والأمر لا يقل بشاعة عما ارتكبه ستالين في حق شعوب الجمهوريات السوفيتية. وهذا ما عبّر عنه في الفيلم المارشال هيرمان غورينغ، حين سأله الطبيب الأمريكي عن رأيه بعد مشاهدة المادة المرئية لمراكز الاعتقالات التي أدارها النازيين، وعُرِضت في المحكمة على المتهمين.
فرد المارشال الألماني المُعتد بنفسه « هل تظن أن الرصاص والقنابل الأمريكية لا تقتل الناس؟، أنتم بخرتم 150,000 ياباني بضغطة زر، وتفترض بأن لديك الحق لتقف وتحاكمني على جرائم الحرب؟!. فقال الطبيب: « كان لدينا الحق في الدفاع عن أنفسنا» ورد غورينغ « كيف يكون دفاعا عن النفس في أرض الغير، ثم ماذا تعتقد الروس يفعلون بأسرى الحرب الألمان؟» وأضاف « أنت تنعم بحريتك وأنا سجين؛ لأنكم ربحتم ونحن خسرنا، ليس لأنكم متفوقون أخلاقيا». وهذه حقيقة لا يمكن نُكرانها لكن لا أحد يريد مناقشتها، إذ أن المنتصر هو من يفرض شرعيته ويعممها على الآخر، فهي ليست أخلاقا بقدر ما هي فرض أمر واقع على المغلوبين.
وإن كان خطاب الفيلم يجتر المحرقة اليهودية وإعادة تقديمها بشكل آخر لأجيال لا تقتنع بالشعب المختار، فإن ذلك له مردود عكسي فالشعب الذي تعرض للترحيل والإبادة يمارسها حاليا في فلسطين بأبشع أنواع القتل والتهجير القسري والإبادة الجماعية، منذ تشكيل عصابات (الهاغانه) وإلى هذه اللحظة، والحرب الأخيرة على غزة شاهد على أخلاقيات الشعب الذي يقدم نفسه ضحية للنازيين.
أما إذا تضمن الفيلم رسالة لمحاولة منع سباق التسلح الجاري حاليا في العالم، وصعود الأحزاب العنصرية في أوروبا وغيرها من المناطق فإن الرسالة قد وصلت، وهذه قيمة الفن والأدب في منع طغيان الشر، وقمع أصوات النشاز العنصرية والمتعطشة للدماء، ومحاولة أخيرة في تحقيق السلام وترسيخ قيم العدالة وروح الإنسانية.
