البنجري
30 ديسمبر 2025
30 ديسمبر 2025
ورد «البنجري» في كتاب جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار للمغيري والذي انتهى من تأليفه سنة ١٩٣٨ كسوار يزين يد المرأة ويُلبس كعدد متساو في كل يد ويَعتمد حجمه على الحالة الطبقية التي تأتي منها. هنالك مصادر تقول إن لفظة بنجري قادمة من اللغة البنغالية وتحديدًا من « كانغري». أحب أن انوه هنا لكتاب عماني مهم جدًا صدر حديثًا عن إسهام المرأة العمانية في المجتمع العماني خلال القرون الستة الأولى للهجرة. للباحثة سناء البلوشي الذي يتناول في أحد فصوله الجميلة زينة المرأة العمانية.
ينطلق فيلم البنجري لموسى الكندي، بالصوت وحده في المشهد الافتتاحي، فبينما الشاشة مظلمة، مهيئين أنفسنا لأجواء من الغموض والسحر، تظهر امرأة تُنصب في طقس نسائي خالص لتصبح ساحرة، ومتبصرة بعد أن ترتدي بنجريا.
يروي الفيلم قصة عن الاستجابة للموت والفقدان. وهو موضوع حي في ثقافتنا الشعبية، ولعنا نضرب مثالًا شهيرًا على ذلك في «المغايبة». يتجرأ الفيلم في تناوله ممارسة أخرى وهي المشي فوق الجثة لا عليها دون أن يلمس الماشي أي قماش أو خيط. وهو طقس اجتماعي منتشرة في ثقافات أخرى بعيدة.
تُظهر قصة الفيلم تنوع الطقوس الجنائزية في هذا السياق، مما يعني ثراء الثقافة وتفاعلها المستمر مع الحياة والعالم والأسئلة الكبرى، تذكرت على الفور دراسة رائعة عن طقوس الحداد في عُمان لم تترجم للعربية بحسب علمي عنوانها : مغايبة : استجابة خاصة للفقد في عُمان للباحثين سمير العدوي ورستم بورجورجي واحسان العيسى نُشرت ١٩٩٧ في الكندية للطب النفسي عبر الثقافات Transcultural Psychiatry تابعت لقاءات الكندي بعد فوز الفيلم بجائزة محلية مشيرًا إلى أن البنجري هو القيد الاجتماعي أيا كانت طبيعته مثل القبيلة، لكنني أنحاز لقراءة أخرى، ترى أن الفيلم يحطم الصور النمطية للمرأة في المتن الثقافي العام، العربي على نحو خاص، والتي يتوقع منها أن تستمر في التضحية والعطاء رغم آلامها الشخصية، كما يتوقع منها أن تكون تابعة فحسب (فحصينة) تريكة المعلم وهي الشخصية الرئيسية في الفيلم، والتي لا يتم تعريفها إلا بربطها به. تقرر بعد خسارة أصابعها في فداء الآخرين، ألا تفعل ذلك بعد الآن.
ومع هذه اللفتة المهمة للغاية في الفيلم وحساسيتها إلا أننا في المقابل نشاهد أن هواجس النساء في الفيلم لا تتعلق بهن، فهذه خائفة من ضياع ابنها وتلك من عدم قدرة ابنتها على النطق وأخرى من مصير الترمل ومرض زوجها، وهنا أسأل ماذا عن رغباتهن الذاتية؟ ألا يبدو وفقًا لذلك أن البنجري (الاستعارة) التي ينطلق منها الفيلم وصانعوه، هو أي الفيلم نفسه وعبر سرده و معالجته الدرامية والفنية لا يقترب من «بنجري الجندر» حقًا، كما لو أنه قيد صعب حتى أمام من يحاول كسر القيود.
يستعير أو «يتناص» الفيلم في بعض صوره الفنية كما يبدو مع فيلم «ليلى والذئاب» للهيني سرور والذي انتج عام ١٩٨٤ وهو فيلم عن النساء الفلسطينيات ودورهن في حرب ١٩٣٦ في فلسطين عند بداية محاولة تهويدها ومحو عروبتها مع أيام الانتداب البريطاني ولا أعرف أن كان ذلك مقصودًا، لكنه في المحصلة يعكس ثقافة سينمائية لافتة للانتباه من قبل مؤلفي الفيلم والمخرج. خصوصًا وأن معرفة العمانيين بالمخرجة اللبنانية هيني سرور قادمة من فيلم «ساعة التحرير دقت». إن مشهد النساء الممثلات في هذا الفيلم كان بالنسبة لي شخصيًا عظيمًا، عمانيات من أعمار متفاوتة يقدن قصة لوحدهن، ويشكلن لوحة جماعية لنساء موهوبات قويات، يرغبن في التحقق الفني والوجودي.
بقي أن أقول أن الأداء كان مسرحيًا في الفيلم وهو أمر تعاني منه السينما والدراما العمانية، لكننا ننتظر من موسى الكندي وفريقه الواعد، أن يلبوا توقعاتنا بأن نشاهد ونتفرج على واقع وان كان عنيفًا إلا أنه يقدم ببطء وتأمل وهدوء لإيجاد مساحة للتأثير علينا وتوريطنا عاطفيًا ووجوديًا بالقصة دون مأساة كبرى أو استجابات مسرحية.
