No Image
اليوم الوطني

جيل يعيد اكتشاف تاريخه .. ويعيد وصل الماضي بوهج الحاضر

19 نوفمبر 2025
19 نوفمبر 2025

كتبت - رحمة الكلبانية -

يصنع الشباب العماني اليوم علاقة جديدة مع التاريخ، علاقة تتجاوز مجرد الانتماء إليه إلى إعادة قراءته وتفعيله في الحاضر، فيبدو ذلك جليا في تفاصيل أثوابهم التي تستعيد ملامح أجدادهم، وفي نوتة اللبان التي تعبق في الأمكنة، وفي الاحتفاء بالفنون والمرويات القديمة في قوالب حديثة إبداعية، هكذا تبدو الأجيال الجديدة وكأنها تُعيد وصل خيوط الماضي بحاضر أكثر إشراقًا.

ويرى الشباب العُماني أن الحفاظ على التراث والذاكرة الوطنية مسؤولية جماعية تتجاوز المؤسسات الرسمية، وهو ما أكدته دراسة وطنية بعنوان «تصوّرات العمانيين حول تعزيز الوعي بالشخصيات العمانية التاريخية البارزة والحفاظ على التراث»، التي أعدها الدكتور أحمد الرباني وفريق من الباحثين بجامعة السلطان قابوس عام 2021، وقد كشفت الدراسة عن حضور متنامٍ للشباب في المبادرات المرتبطة بتوثيق التراث، وصناعة المحتوى المعرّف بالموروث عبر منصات التواصل، والمشاركة في الفعاليات الثقافية التي تعيد تقديم التاريخ بأساليب حديثة وجاذبة، وتبين هذه النتائج أن علاقة الشباب بتاريخهم لم تعد علاقة تلقي، بل تحولت إلى علاقة مشاركة وإحياء، ما يعكس تحولًا مهمًا في الوعي المعاصر تجاه الماضي ودوره في تشكيل الهوية.

قلاع تحتضن الشباب

أضحى الجيل الجديد يوظف مفردات التاريخ وسردياته وصوره في نشاطاته التجارية والفنية، وهو ما نلمسه بوضوح في العديد من التجارب والإبداعات المحلية. ومن أبرز المبادرات التي تسعى لدمج الشباب بالتاريخ وخلق مساحة للتعرّف عليه بعمق، ما تقوم به شركة فنادق ومنتجعات جبال الحجر من إحياء للقلاع والحصون القديمة وتحويلها إلى مزارات رائجة تخاطب الأذواق المعاصرة وتلبي احتياجات الشباب المتجددة.

وحول ذلك يحدثنا هاني بن عبدالعزيز الكندي، المدير التنفيذي للشركة، قائلًا: ولدت الفكرة من قناعة راسخة بأن القلاع ليست مجرد مبانٍ حجرية، بل محطات حية في الذاكرة العمانية يمكن إعادة قراءتها بروح جديدة، لاحظنا أن قلعة مطرح رغم موقعها الحيوي قرب السوق والميناء، كانت خارج دائرة الاهتمام الشبابي والسياحي، لذلك انطلقنا من رؤية تقوم على تحويل هذا الإرث التاريخي إلى مساحة نابضة بالحياة، تُلهم الشباب وتقدّم حكاية المكان بأسلوب قريب من الناس، دون المساس بروح القلعة وأصالتها.

ويمكن تصور أن تحويل مزار تاريخي عريق كقلعة مطرح لمزار رائج يحتضن فعاليات فنية وموسيقية معاصرة ليس بالأمر السهل، وحول ذلك يقول الكندي: واجهتنا تحديات في الحفاظ على سلامة المكوّن التاريخي أثناء تجهيز المسارات وتجربة الزائر، وفي إيجاد توازن دقيق بين العناصر الحديثة وبين الطابع الأثري الأصلي وفي كيفية تغيير الصورة الذهنية لدى الجمهور بأن القلاع أماكن جامدة وغير جاذبة كما أن التعامل مع البنية التحتية القديمة وملاءمتها لاحتياجات الفعاليات المعاصرة لم يكن سهلا، لكن هذه التحديات صنعت تجربتنا وطورت أسلوبنا في دمج التراث بالتقنيات والعروض الحديثة. وللحفاظ على هوية القلعة في ظل كل ذلك ، تعتمد شركة جبال الحجرمنهجية -الاحترام دون الجمود-؛ أي الحفاظ الكامل على المعالم الأصلية للقلعة، وفي الوقت نفسه تقديم عروض تفاعلية تعتمد على الإضاءة، السرد القصصي، وفعاليات ثقافية تعيد إحياء المكان دون أن تتدخل في بنيانه أو جوهره.

وكان للشباب أنفسهم دور بارز في إعادة إحياء قلعة مطرح. يقول الكندي: كان الشباب قلب المشروع وروحه، هم من صاغوا هوية الفعاليات، وأداروا التجربة اليومية، وصمموا المحتوى، ونقلوا القلعة من مفهوم -الزيارات الرسمية- إلى مساحة تفاعلية نابضة بالإبداع والفنون والحضور المجتمعي. اعتمادنا على طاقة الشباب مكّننا من خلق نموذج جديد لإدارة المواقع التاريخية، قائم على المشاركة، الابتكار، والقدرة على التواصل مع مختلف فئات المجتمع.

وعند سؤاله حول دور المشاريع الثقافية مثل قلعة مطرح في الربط بين الحاضر والماضي، أجاب: المشروعات الثقافية قادرة على إعادة تعريف علاقتنا بالتراث إذا قُدمت بروح معاصرة. قلعة مطرح مثال حي على ذلك؛ فهي مساحة تروي تاريخ المكان، لكنها في الوقت نفسه تحتضن الفنون، والفعاليات، واللقاءات التي تعكس نبض الحاضر. عندما يصبح الموقع التاريخي مكانًا حيًا يُمارس فيه الناس الثقافة والإبداع، يتحول التراث من ذكرى إلى قوة دافعة وحاضرة في الوجدان والهوية.

عين على مجان

وتلعب الصناعات الإبداعية في سلطنة عُمان دورًا مهمًا في إعادة سرد التاريخ العُماني وصياغته بطريقة تجعل الجيل الجديد يتفاعل معه بلغته وأدواته المعاصرة، وللسينما والمقاطع البصرية حضور بارز في هذا المسار، ويتجلّى ذلك بوضوح في تجربة شركة «عكّاسة» للإنتاج الفني، إذ تحمل أفلامها وأعمالها رسائل لا تخلو من المفاهيم التاريخية والقيم العُمانية الضاربة في الجذور. ويقول محمد الحارثي، مؤسس الشركة، حول هذا التوجه: بالنسبة لنا، التاريخ مصدر إلهام، وركيزة أساسية لترسيخ الكثير من القيم التي نسعى دائمًا إلى تذكير الجمهور بها. فالتاريخ هو الجذور التي منحتنا الامتداد، وشكّلت هويتنا وثقافتنا ومنظومتنا القيمية. ولهذا فإن استحضار التاريخ هو تذكيرٌ دائم بأننا نقف على أرضية صلبة، ولسنا أمة ناشئة بلا جذور.

وعند سؤاله حول ما إذا كان يمكن الكاميرا وسيلة جديدة لحمل التاريخ وما يمكن أن تضيفه على مصادر التعلم الكلاسيكية قال: إنّ تنويع القوالب التي تُقدَّم من خلالها المعرفة أصبح ضرورة ملحّة في عصرنا الحالي؛ حيث يشهد العالم انفجارًا معرفيًا وكثافة معلوماتية يتعرّض لها الفرد من كل جانب. ومن الجوانب المهمة التي ينبغي الانتباه لها اليوم، ما يتعلق بحرب السرديات والهيمنة الثقافية التي ترافق هذا النوع من التنافس بين الحضارات والثقافات المختلفة لذلك فإن توظيف مختلف أشكال المحتوى، سواء الجاد أو الترفيهي، بات مطلبا أساسيا في زمن التنافس. فنحن بحاجة إلى إبراز هذا الإرث في قوالب متعددة، تُناسب الفئات كافة، وعلى اختلاف مستوياتها، دون أن يقتصر ذلك على الدراما والأفلام فقط، بل ليمتد إلى المحتوى الخفيف لمنصات التواصل، وإلى الألعاب الإلكترونية، وإلى كل ما يخاطب الأجيال الشابة والصغيرة بلغتها وأدواتها. ويمكن أن يشمل ذلك طيفا واسعا من القطاعات الإبداعية، كالموسيقى والأزياء والعمارة وغيرها من المجالات التي تسهم بدورها في تعزيز الارتباط بالجوانب التاريخية، ودفع الجمهور إلى البحث والتعرّف عليها بصورة أعمق. ولعلي أذكر في هذا السياق تجربة سلسلة «عُمان تحكي»، التي أصبحت إحدى أهم المصادر المعتمدة في مناهج التعليم سواء في المدارس أو حتى في الجامعات والكليات. وهذه التجربة تؤكد أن المحتوى الذي يحمل طابعا ترفيهيا قادر على إيصال المعرفة والمعلومة بأسلوب مشوّق وفعّال. وهو اتجاه يتوافق مع إيصال المعرفة إلى جمهور واسع، وإحداث أثر كبير مقارنة بالمصادر التقليدية كالكتب والموسوعات، التي باتت شريحة الاهتمام بها أقل نسبيا.

سألنا محمد الحارثي باعتباره مؤسس شركة سينمائية عمانية رائجة حول المشروع الذي يتمنى تنفيذه لإعادة إحياء لحظة أو شخصية من التاريخ العماني على الشاشة، فأشار إلى أن هناك العديد من القصص الملهمة عبر التاريخ، لكنه يميل بشكل خاص إلى توجهين رئيسيين في الأعمال الدرامية التاريخية، الأول يتمثل في إبراز الحقب التاريخية القديمة التي نسمع عنها كثيرًا، لكننا لا نشعر بقربها أو ارتباطنا الحقيقي بها بسبب بعدها الزمني. يقول: تخيّلوا لو قُدّم مسلسل يروي قصة حضارة مجان؛ الحقبة التي ظهر فيها اسم مملكة عُمان وشهدت الإبحار الأول من شواطئ عُمان، مما ربطها بحضارات العالم القديمة. فهي قصة مليئة بالتحديات والشغف والطموح، وتُبرز الدور المحوري الذي لعبته عُمان على خارطة العالم في ذلك الوقت.أما التوجّه الثاني فهو التعمّق في تفاصيل القصص وإبراز جميع عناصرها وشخصياتها. فهناك لحظات مفصلية وشخصيات مؤثرة في التاريخ العُماني لم تُتناول دراميًا بالشكل الذي تستحقه في اعتقاده مثل السيد سعيد بن سلطان ودوره في بناء الإمبراطورية العُمانية، وتطوير الأسطول البحري، وتعزيز العلاقات الدولية، وتبرز هنا قصة السفينة سلطانة بما حملته من تحديات وصعوبات في سبيل ترسيخ حضور عُمان على الساحة العالمية، إلى جانب كون سلطنة عُمان أول دولة عربية ترسل مبعوثًا رسميًا إلى الولايات المتحدة في تلك المرحلة المبكرة من التاريخ.

صبغة متجددة

وكغيرها من مسارات الصناعات الإبداعية، تزخر اللوحات التشكيلية لعدد من الفنانين العُمانيين اليوم بمفردات بصرية تستلهم جذور التاريخ العُماني، من النخلة والحُلي النسائية، وزخارف العمارة القديمة، إلى الأزياء العُمانية المتوارثة التي لا تزال تحتفظ ببصمتها الواضحة في أعمالهم. ومن بين هؤلاء يبرز اسم الفنان التشكيلي محمد بن حاتم العطّار (ميمون)، المعروف بقدرته على إلباس التاريخ العُماني ورموز الهوية الضاربة في القدم ألوانًا حديثةً ومعاصرة تجذب انتباه الشباب قبل غيرهم. وعن نهجه الفني، يقول: التنوع الغزير في المفردات العُمانية يشكّل بالنسبة لي منبعًا للإلهام ومساحة خصبة لخيالي الواسع، الذي سخّرته لاحقًا في لوحات تحتفي بالثروات التاريخية والثقافية لعُمان بطريقة جديدة. فعُمان هي ملهمتي وستبقى تلهمني. وأنا فخور بأنني تمكنت من حمل هذه الأعمال وعرضها في الخارج في مختلف المحافل. ويرى ميمون أن الفن لغة عالمية قادرة على تسريع إيصال الرسائل، ومنها الرسائل التاريخية، خصوصًا لجمهور الشباب. ويقول: يتحدث الفنان لغة تتجاوز الكلمات، وبمقدوره أن يخلّد ويحفظ التاريخ والثقافة، وأن يسهم في تحويلها إلى منتجات تدعم اقتصاد البلد.

سرديات معاصرة

ولا يُفرض التاريخ على أبناء هذا البلد، بل نراهم في سعيٍ ذاتيٍّ مستمر لإعادة روايته وصياغته في سرديات جاذبة تُكمل الاحتفاء به، وفي هذا السياق يبرز اسم جليلة بنت عبدالله المعمري، صانعة المحتوى والمهتمة بالتاريخ والهوية الثقافية العُمانية، التي تسخّر منصاتها في وسائل التواصل الاجتماعي لقصّ التاريخ والتذكير بجذورنا العُمانية، وتقول إن حبها لهذا المجال جاء من والدها، ومن المكتبة التي أسسها في التاريخ العُماني وتحولاته، والتي شكّلت لها ولأسرتها نافذة معرفية ومساحة حوار دائم.

وحول الطريقة التي تعتمدها المعمرية في توظيف التاريخ داخل المحتوى الذي تنشره عبر منصات التواصل، تقول: أقوم بتحويل المحتوى والمعلومات من سردٍ ثقيلٍ -قد يكون مُمِلّ للبعض- إلى قصص وأفكار ورؤى من الحياة اليومية. وللأمانة منصات التواصل وفّرت لي طرقًا أسهل للتعبير عن وجهات نظري في جوانب مختلفة وبأدواتٍ بسيطة، وصور ومواد بصريّة جذّابة، وأحاول بها ربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وإظهار التاريخ والهوية الثقافية العُمانية، وأحاول من خلال المحتوى الذي أكتبه، أن أُقدّم التاريخ العُماني كمساحة إلهام واستشراف للمستقبل لا كمادة للحفظ والتوثيق فقط؛ لذلك أقوم بالربط بين مواقف لعددٍ من الشخصيات والأحداث العُمانية في الماضي وبين مواقف نعيشها اليوم، كذلك الربط بين التحوّلات التاريخية من جهة وأسئلة الهوية والمستقبل من جهة أخرى. وأؤمن تمامًا أنّ دروس تاريخنا وهويتنا العُمانية مَرنة وقابلة للتشكيل والتجديد في حاضرنا ومستقبلنا حين نفهم الجذور جيدًا.

وتقول المعمرية عن دور التاريخ في تشكيل وعي الشباب بذاتهم وهويتهم الوطنية: من الجيد أن يعي النشء والشباب جذورهم وتتكون لديهم صورة أعمق عن أرضنا العُمانية بيئيًا وجغرافيًا وتاريخيًا، وكيف تمّ بناء عُمان على مختلف العصور إلى أن توحّدت في شكلها العصريّ، وما صاحب ذلك من تحولات تاريخية ومجتمعية وأثرها على مختلف الأجيال.

وتضيف: في سلطنة عُمان - والحمدلله- لدينا إرثٌ تاريخي عظيم، وهوية تشكّلت عبر قرون وتفاعلت وعبرت المحيطات والقارات، والمعرفة المُتعمّقة بهذا الإرث يُعزز شعور الانتماء بالوطن؛ فالتاريخ لا يستعرّض قصصًا للحنين والتغني بالماضي فقط، بل يُقدّم للشباب أفكار مُلهمة تساعد على تشكيل رؤى حديثة وعصريّة للتحديات الحالية في نطاقٍ أوسع، وتَمنح أدوات ومهارات للتفكير وإيجاد الحلول. وبذلك يعي الشباب خصوصية المشهد العُماني وأهمية التركيز على بناء مستقبل يُناسب أرض عُمان ومجتمعها وهويتها. وترى الجليلة أنه من الجيد إعادة تقديم التاريخ العُماني بطريقة تُناسب تساؤلات وتوجّهات هذا العصر، وتفكير شباب اليوم. وتقول: ومن قراءتي للتاريخ العُماني -ولأنه ثريّ جدًا بفترات وشخصيات كثيرة-، فغالبًا ما تكون المعلومات في الكتب والمراجع دسمة ومُعقّدة على النشء والشباب. خصوصًا أنّه في عصرنا الحالي تغيّرت سلوكيات المُتلقّي، وأصبح الأغلب يريد الوصول إلى المعلومات بسرعة مع مادة بصريّة أو سمعية تُسهّل الفهم، لذلك أصبح المحتوى المُختَصَر والمُتسلسِل أكثر رواجًا وتفضيلًا. وعليه، لا بدّ أن تتغيّر طريقة عرض المعلومات لتكون أكثر سلاسة، وأكثر انسجامًا مع إيقاع العصر ومنصاته الرقمية.

كما أن الدراسات الحديثة تؤكّد أن المحتوى القصصي من أكثر الأنماط قُربًا لذائقة الناس؛ كونها أسهل في التلقّي وأعمق في الأثر. ولهذا أرى أنّ تقديم التاريخ العُماني بصيغة قصصية يجعل منه أكثر حضورًا في الذاكرة، وأكثر انتشارًا على منصات التواصل؛ لأن الناس بطبيعتها تميل إلى الإصغاء للقصص ومشاركتها مع الآخرين. كذلك من الجيد أن يتم الربط بين تجربة العُمانيين في البحر والتجارة والعلم، وبين مفاهيم اليوم مثل الريادة، والانفتاح، والابتكار وغيرها. بمعنى أن يتم ربط التاريخ بدروس وأسئلة، يستطيع منها المُتلقّي الاستفادة وتوظيفها في واقعه وأفكاره، بدلًا من الاكتفاء بوصف ما حدث في الماضي فقط.

وختامًا، أتمنى فعلًا أن يُروى التاريخ العُماني بطريقة حيّة وفاعلة بلغة العصر وبالأدوات التي تفهمها وتُفضّلها الأجيال الجديدة، عبر منصات التواصل والأفلام والقصص القصيرة، والبودكاست، والمحتوى البصري وغيرها من الأدوات؛ ليساهم ذلك في تشكيل وعي الأجيال وتعزيز معرفتهم بتاريخهم وهويتهم.