جهود حثيثة للحوكمة المؤسسية وتعزيز الشفافية
19 نوفمبر 2025
19 نوفمبر 2025
تقرير - أسيد بن أحمد البلوشي -
تتقدّم اليوم مؤسسات الدولة نحو نموذج حديث يستند إلى الحوكمة والشفافية، يرتكز على البيانات الدقيقة والرقابة الفعّالة والتحول الرقمي. هذه المرحلة ترسّخ منظومة متكاملة تتقاطع فيها جهود عدة مؤسسات حكومية ساعية إلى رفع كفاءة الأداء وتعزيز النزاهة وتحسين تجربة المواطن في التعامل مع الخدمات العامة.
ويبرز في المشهد دور جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة من خلال إصداره الملخص السنوي للمجتمع حول نتائج أعماله لعام 2024، وهو ملخص يضع أمام الرأي العام تفاصيل دقيقة حول ما تم من مهام رقابية وما خلصت إليه من نتائج مالية وإدارية. وقد شهد عام 2024 تنفيذ 225 مهمة رقابية صدر عنها 172 تقريرًا، غطّت وحدات حكومية وهيئات وشركات واستثمارات، بناءً على خطة فحص سنوية تستند إلى معايير الإنتوساي وإلى منهجية رقابية تعتمد تحليل المخاطر والأهمية النسبية. تناولت تلك المهام مراجعة مجالات المطابقة والالتزام، وتقييم الأداء، والتدقيق الإداري، والرقابة على تقنية المعلومات، وفحص جودة بعض الخدمات العامة. كما شملت أعمال الفحص مراجعة البرامج والأنظمة والعقود والاتفاقيات والأعمال المالية والإدارية لعدد من الشركات، وفحص بعض المشروعات.
وعلى المستوى المالي، أسفرت أعمال الجهاز عن تحقيق قيمة مضافة مباشرة لصالح الخزانة العامة بلغت 58 مليون ريال عماني، منها 25 مليون ريال تم تحصيلها أو استردادها خلال عام 2024، و33 مليون ريال تعود لتحصيلات تمت في عام 2023 وأُدرجت في تقرير 2024 نتيجة استمرار متابعة الجهاز لتلك المبالغ وتلقي مؤيدات التحصيل بعد رفع التقرير السابق. ويعكس هذا الرقم الدور العملي للرقابة في حماية المال العام ومتابعة الإجراءات حتى استكمالها.
كما تعامل الجهاز خلال العام نفسه مع 25 قضية من قضايا الأموال العامة محل النظر القضائي، شملت قضايا أبلغ عنها الجهاز وأخرى أبلغت بها الجهات الخاضعة للرقابة وأوامر ندب قضائي صادرة من الادعاء العام. وتوزعت هذه القضايا على أنماط مختلفة من المخالفات، أبرزها استغلال المنصب لتحقيق منفعة، والرشوة، والتزوير المعلوماتي، والتزوير في المحررات الرسمية، واختلاس الأموال العامة، والإخلال بأداء الواجبات الوظيفية، والتعدي على المال العام. وقد سجل الجهاز أيضًا وجود 47 محضر تحرٍّ مرتبط بهذه القضايا.
وتضمّن تقرير الجهاز دراسة 63 تشريعًا قانونيًا مرتبطًا بالمجالات المالية والمحاسبية والضرائب والرسوم، في إطار دوره الرقابي والمهني في مراجعة مشروعات القوانين واللوائح والنظم التي تعدها الجهات الحكومية. واتسم عام 2024 بارتفاع كبير في عدد الشكاوى والبلاغات التي تلقاها الجهاز من المجتمع، إذ بلغ عددها 1378 بلاغًا وشكوى، أنجز منها نحو 90%. وتوزعت هذه البلاغات على تجاوزات مالية وإدارية وتعطيل مصالح وتظلمات وظيفية وشكاوى متعلقة بإسناد المناقصات وسوء استغلال السلطة.
وأظهرت بيانات الملخص أن وزارة الإسكان والتخطيط العمراني جاءت في صدارة الجهات الحكومية من حيث عدد البلاغات المسجلة لدى الجهاز خلال عام 2024 بواقع 61 بلاغًا، تلتها وزارة الصحة بـ43 بلاغًا، ثم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بـ36 بلاغًا، فوزارة التربية والتعليم بـ34 بلاغًا، ووزارة العمل بـ10 بلاغات. وفي جانب الشركات والهيئات، تصدرت هيئة البيئة القائمة بـ23 بلاغًا، تليها شركة نماء لخدمات المياه بـ18 بلاغًا، وشركة تنمية نفط عمان بـ17 بلاغًا، ثم الطيران العماني بـ15 بلاغًا، وصندوق الحماية الاجتماعية بـ7 بلاغات. وتمثل هذه الأرقام مؤشرًا مهمًا على انفتاح المؤسسات على المجتمع، وارتفاع مستوى الوعي والرقابة المجتمعية، وتنامي ثقة المواطنين في دور الجهاز.
في السياق ذاته، يتصاعد الدور الذي يلعبه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات بوصفه الجهة المسؤولة عن بناء نظام معلومات وطني يدعم صنع القرار الحكومي. فقد بدأ المركز تنفيذ استطلاع الرأي العام حول تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد لعام 2025 بالتعاون مع جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، خلال الفترة من 3 نوفمبر إلى 3 ديسمبر 2025، عبر الاتصال الهاتفي على الرقم 24219000، مستهدفًا المواطنين العمانيين من عمر 18 عامًا فأعلى من مختلف المحافظات وباللغتين العربية والإنجليزية خلال ساعات الدوام الرسمي. ويأتي الاستطلاع في إطار مجموعة واسعة من الدراسات التي ينفذها المركز لقياس اتجاهات المجتمع في القضايا الوطنية. ويستند تنفيذه إلى الضوابط القانونية الواردة في قانون الإحصاء والمعلومات رقم 55/2019 الذي يؤكد على سرية البيانات الفردية ويمنع استخدامها لغير الأغراض الإحصائية، بما يعزز ثقة المجتمع في منهجية جمع البيانات.
ويمضي المركز في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للإحصاء والمعلومات للفترة 2025-2030، التي تشمل تطوير البنية التحتية الرقمية للبيانات، وتعزيز جودة البيانات وكفاءة تحديثها، وزيادة مستوى تكامل قواعد البيانات بين المؤسسات الحكومية، وتوسيع نطاق البيانات المفتوحة، والعمل على بناء القدرات الوطنية في التحليل الإحصائي، إضافة إلى وضع مؤشرات كمية ونوعية لقياس التقدم في كل محور. كما يجري العمل على تطوير منصة إحصائية وطنية ذكية تتيح تبادل البيانات الحكومية وفق معايير عالية للأمن والسيولة المعلوماتية، ما يسهم في تعزيز مستوى التكامل المؤسسي.
على صعيد الشفافية الرقمية، أطلقت وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات البوابة الوطنية للبيانات المفتوحة، التي تضم بيانات منشورة من 44 جهة حكومية بعدد يبلغ 362 مجموعة بيانات، تجاوز عدد تحميلاتها 8000 عملية تحميل. كما تتيح المنصة خدمة “طلب مجموعة بيانات جديدة” التي تُمكّن المستخدمين من اقتراح بيانات غير متاحة وتتبُّع حالة الطلب، إلى جانب تقديم نماذج من الاستخدامات الناجحة للبيانات في التطبيقات والبحوث والمبادرات المجتمعية، بما يعزز البيئة الابتكارية ويقوي اقتصاد المعرفة.
وفي الإطار نفسه، أطلقت الوزارة حملة وطنية تحت شعار -سهلناها عليك- للتعريف بالبوابة الموحدة للخدمات الحكومية، بهدف توحيد الرسالة الاتصالية بين الجهات الحكومية، وتحسين تجربة المستخدم، وتعزيز التفاعل المجتمعي، وتشجيع المواطنين والمقيمين على التسجيل في المنصة التي توفر نافذة واحدة لجميع الخدمات الحكومية الإلكترونية، مع ضمان أعلى معايير الأمن السيبراني وحماية الخصوصية.
وفي سياق تعزيز ثقافة العمل الحكومي نفسه، برزت «المبادرة الوطنية للفريق الحكومي الواحد» التي أطلقتها الأكاديمية السلطانية للإدارة بمباركة سامية، والتي تُعد أول مبادرة في المنطقة تُعنى بتطوير ذهنية إحداث الأثر في العمل الحكومي. تستهدف المبادرة في عامها الأول خمسة آلاف موظف من 19 جهة حكومية، وتقوم على أربعة أبعاد رئيسة تشمل علاقة الموظف بوظيفته، وبمجتمعه، وبوطنه، وبالعالم. وتعتمد المبادرة على منظومة متكاملة من البرامج تشمل ورشة اليوم الواحد لتطوير الوعي بالأثر الوظيفي، وبرنامج السفراء الذي يضم 57 سفيرًا يمثلون الجهات الحكومية المشاركة، وبرنامج إعداد الميسّرين الذي يضم 36 كفاءة وطنية، إضافة إلى منظومة تقييم ومتابعة وحملة اتصالية واسعة. وتمتد المبادرة لخمسة أعوام لتشمل جميع موظفي الجهاز الإداري للدولة، مع تنفيذ برامجها في مختلف المحافظات دعمًا لتوجهات اللامركزية.
هذه الجهود تكشف بوضوح حراكًا تتقارب فيه أدوات الرقابة وأطر البيانات وقنوات التحول الرقمي والثقافة المؤسسية الجديدة، في اتجاه واحد هدفه الارتقاء بجودة الأداء الحكومي وتحقيق أعلى مستويات الشفافية والنزاهة. ومع استمرار البلاد في هذا المسار، يتعزز حضور نموذج إداري أكثر كفاءة، وأكثر قدرة على الاستجابة، وأكثر انسجامًا مع تطلعات رؤية عُمان 2040، بما يرسّخ الثقة بين المجتمع ومؤسساته.
