هكذا يعيدنا الذكاء الاصطناعي إلى العصور المظلمة

27 ديسمبر 2025
27 ديسمبر 2025

جوزيف دي ويك 

ترجمة: أحمد شافعي 

في الصيف الماضي، وجدت نفسي أصارع المرور في قيظ شوارع مرسيليا. وعند مفترق طرق، أشارت عليّ صديقتي من المقعد المجاور بأن أنعطف يمينًا إلى مكان معروف بطيب حساء السمك. وأشار عليَّ تطبيق «ويز» الملاحي بالاستمرار في خط مستقيم. كنت متعبًا، وأشعر أن سيارتي الرينو ساونا متحركة، فاتبعت نصيحة ويز. فإذا بنا بعد لحظات نعلق في موقع بناء. 

لعله موقف عادي. لكن لعله يقتنص سؤال عصرنا الحاسم الذي تكاد تمس فيه التكنولوجيا كل جوانب حياتنا: في من نثق أكثر، في البشر الآخرين أم في غرائزنا أم في الآلة؟ 

لقد اشتهر عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط تعريفه للتنوير بأنه «خروج الإنسان من حالة عدم النضج التي يفرضها على نفسه»؛ إذ كتب أن عدم النضج هو «عجز المرء عن استعمال فهمه دونما إرشاد من آخر». 

وعلى مدار قرون كان «الآخر» الموجه لفكر الإنسان وحياته هو القسيس والملك والسيد الإقطاعي، أولئك الذين كانوا يزعمون أنهم يعملون بصوت الإله على الأرض. ففي محاولة لفهم الظاهرة الطبيعية ـ من قبيل لماذا تندلع البراكين وتتغير الفصول ـ بحث البشر عن الإجابات عند الإله. وفي صوغ العالم الاجتماعي، في ما بين الاقتصاد والحب، كان هادينا هو الدين. 

ذهب كانط إلى أن البشر كانت لديهم دائما القدرة على استعمال العقل. وكل ما هنالك أنه لم تكن لديهم دائما الثقة في استعماله. لكن مع الثورة الأمريكية ثم الفرنسية أشرق فجر عصر جديد: يحل فيه العقل محل الإيمان، والعقل البشري المتحرر من أغلال السلطة يصبح محركا للتقدم ولعالم أكثر أخلاقية. وحث كانط معاصريه: «تجاسروا على استعمال فهمكم». 

وبعد قرنين ونصف القرن، قد يتساءل المرء عما لو أننا ننزلق راجعين بهدوء إلى عدم النضج. فأن ينبئنا تطبيق بأي طريق نسلك أمر، أما أن يهدد الذكاء الاصطناعي بأن يكون هو «الآخر» الجديد بالنسبة لنا ـ والسلطة الصامتة التي تقود أفكارنا وأفعالنا، فهذا أمر آخر. ذلك أننا معرضون لخطر التخلي عن شجاعة اكتسبناها بشق الأنفس، شجاعة التفكير بأنفسنا، وهذه المرة لا نتخلى عنها لآلهة أو ملوك، بل لأكواد. 

لقد بدأ (تشات جي بي تي) قبل ثلاث سنوات فقط، وتبين لاستطلاع عالمي نشر في ابريل أن 82% من المشاركين قد استعملوا الذكاء الاصطناعي خلال الأشهر الستة السابقة. ففي اتخاذ قرار بشأن إنهاء علاقة أو باختيار مرشخ، كان الناس يطلبون النصح من آلات. 

ووفقا لشركة أوبن آيه آي، فإن 73% من استفسارات المستخدمين تتعلق بمواضيع غير متعلقة بالعمل. والأشد إثارة للاهتمام من اعتمادنا على حكم الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية ما يجري حينما نسمح له بالحديث بالنيابة عنا. فالكتابة الآن من أكثر استعمالات (تشات جي بي تي) شيوعا، فهي الثانية مباشرة بعد الطلبات العملية من قبيل نصائح الأعمال اليدوية أو الطبخ. وقد قالت الكاتبة الأمريكية جون ديديون مرة: «إنني أكتب فقط لاكتشاف ما أفكر فيه». فماذا يحدث حينما نتوقف عن الكتابة؟ هل نتوقف عن الاكتشاف؟ 

من المثير للقلق أن بعض الأدلة تشير إلى أن الإجابة قد تكون نعم. فقد استعملت دراسة أجراها معهد مساتشوستس للتكنولوجيا تخطيط كهربية الدماغ (EEG) لمراقبة نشاط الدماغ لدى كتّاب المقالات الذين أُتيح لهم استعمال الذكاء الاصطناعي، أو محركات البحث من قبيل جوجل، أو لم يتح لهم أي شيء على الإطلاق. فالذين كان بوسعهم استعمال الذكاء الاصطناعي أظهروا أدنى مستوى من النشاط المعرفي، وواجهوا صعوبة في الاقتباس الدقيق. ولعل الأدعى للقلق أنه على مدار شهرين، أصبح المشاركون في مجموعة الذكاء الاصطناعي أكثر كسلا، إذ نسخوا فقرات كاملة من النصوص في مقالاتهم. 

برغم أن الدراسة صغيرة ولا تخلو من عيوب، لكن كانط كان ليجد فيها نمطا مألوفا. فقد كتب أن «الكسل والجبن هما اللذان يجعلان نسبة كبيرة للغاية من البشر...تبقى في حالة عدم نضج على مدى العمر، ولماذا يسهل كثيرا على الآخرين أن يقيموا من أنفسهم أوصياء عليهم. فمن السهل للغاية أن يكون المرء غير ناضج». 

مؤكد أن جاذبية الذكاء الاصطناعي تكمن في سلاسته. فهو يوفر الوقت والجهد والأهم أنه يوفر طريقة جديدة للتخفف من المسؤولية. في كتابه الصادر سنة 1941 بعنوان «الفرار من الحرية» ذهب الفيلسوف الألماني إريك فروم إلى أن صعود الفاشية يمكن تفسيره جزئيا بتفضيل الناس للتنازل عن حريتهم في مقابل طمأنينة الخضوع ويقينه. والذكاء الاصطناعي يوفر طريقة جديدة للتخلي عن عبء اضطرار المرء إلى التفكير واتخاذ القرارات بنفسه. 

وأكبر جاذبية في الذكاء الاصطناعي أن بوسعه القيام بأمور لا يستطيعها عقلنا، كأن يستعرض محيطات من البيانات ويعالجها بسرعة غير مسبوقة. فجلوسي في السيارة في مرسيليا كان في نهاية المطاف هو السبب في اختياري أن أثق في الآلة بدلا من صديقتي الجالسة بجواري (وذلك ما اعتبرته صديقتي إهانة). فبقدرته على الوصول إلى جميع البيانات، لا بد أن يكون التطبيق على دراية تامة، أو ذلك ما تصورته. 

المشكلة هي أن الذكاء الاصطناعي صندوق أسود. فهو ينتج معرفة لكن دون أن يعمِّق الفهم البشري بالضرورة. ونحن لا نعرف في حقيقة الأمر كيف يصل الذكاء الاصطناعي إلى نتائجه، بل إن المبرمجين أنفسهم يعترفون بهذا. وليس بوسعنا أن نتحقق من منطقه وفق معايير واضحة موضوعية. لذلك فنحن حينما نمتثل لنصيحة الذكاء الاصطناعي لا نكون مهتدين بعقل، إنما نكون قد رجعنا إلى مملكة الإيمان: «عند الشك، نثق في الآلة»، وذلك قد يكون المبدأ الهادي لنا في المستقبل. 

بوسع الذكاء الاصطناعي أن يكون حليفا عظيما للبشر في البحث العقلاني. بوسعه أن يساعدنا في اختراع عقاقير، أو في تحريرنا من «المهام السقيمة» أو في تجهيز ضرائبنا، أي المهام التي لا تستوجب تفكيرا كثيرا ولا تحقق إشباعا كبيرا. وهذا جيد. لكنَّ كانط ومعاصريه لم يدافعوا عن العقل في مقابل الإيمان لمجرد أن البشر قادرون على صنع أرفف أفضل أو لتوفير قدر أكبر من وقت الفراغ. فالتفكير النقدي لم يكن قط يتعلق بالكفاءة، إنما كان ممارسة للحرية والتحرر الإنساني. 

قد يكون التفكير الإنساني مليئا بالفوضى والأخطاء، لكنه يرغمنا على الجدل والشك واختبار أفكارنا في مقابل بعضها بعضا والتعرف على حدود فهمنا. وهو يبني الثقة، فرديا وجماعيا. وإعمال العقل عند كانط لم يكن قط أمرا يتعلق بالمعرفة، بل لقد كان تمكينا للبشر كي يصبحوا فاعلين في حياتهم، مقاومين للهيمنة. وكان يتعلق ببناء مجتع أخلاقي قائم على مبدأ مشترك هو مبدأ العقل والجدل لا الإيمان الأعمى. 

ومع كل ما يجلبه الذكاء الاصطناعي من منافع، يبقى هذا هو التحدي: كيف نسخِّر وعده بذكاء إنساني خارق دون تقويض التفكير البشري، وهو حجر الزاوية في التنوير والديمقراطية الليبرالية نفسها؟ قد يكون هذا من الأسئلة الحاسمة في القرن الحادي والعشرين. وهو سؤال يحسن بأن لا نعهد به إلى آلة. 

 جوزيف دي ويك زميل معهد بحوث السياسة الخارجية. 

 الترجمة عن ذي جارديان