عام 2026 واستشراف موجة الذكاء الاصطناعي القادمة
نحن الآن على أعتاب عام 2026، وبحكم تخصصي وعلاقتي الوثيقة بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وعبر ما أقرأه وأتابعه من مستجدات في هذا الحقل العلمي شديد الجدل والمتسارع في تطوراته؛ تولّدت لدي تساؤلات عميقة عن مدى جاهزيتنا، وعما يمكن أن نتوقعه من ارتدادات وتطورات ومستجدات وتأثيرات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي في عامنا المقبل.
في الأشهر الماضية اقتنيتُ كتابا باللغة الإنجليزية للكاتب الأمريكي من أصل سوري «مصطفى سليمان» شاركه في تأليفه الكاتب «مايكل بهاسكار» بعنوان «الموجة القادمة: التقنية والقوة ومعضلة القرن الحادي والعشرين الكبرى».
يركّز الكتابُ على قضية الذكاء الاصطناعي وقوته القادمة، وكذلك على المعضلات المصاحبة له، ولا سيما تلك المتعلقة بالجانب الأخلاقي، وأخلاقيات التقنية، والخصوصية، وما يمكن أن يقود إليه هذا التطور المتصاعد من إشكاليات عميقة، ومن بين القضايا المركزية التي يناقشها الكتاب ما يُعرف بـ«مشكلة الاحتواء» التي يناقش فيها الكاتب قدرة المجتمعات على جني الفوائد التقنية الهائلة مثل الابتكار ورفع الإنتاجية دون أن تنفلت هذه التقنيات أو تنزلق إلى مسارات كارثية أخرى مثل اضطراب الأمن، وتهديد الاستقرارين السياسي والاقتصادي، أو الانزلاق إلى فضاءات الرقابة المفرطة التي تقوّض الخصوصية وتحدّ من الحريات الأساسية.
دفعني هذا الكتاب إلى أن أختتم مقال الرأي لهذا العام بقراءة استشرافية لعام 2026 تتناول المسار المتوقع لتطور الذكاء الاصطناعي، وأراها قراءةً تعكس حصيلةَ ما توصلت إليه من قراءات متعددة ومتابعة دقيقة للمستجدات المرتبطة بهذا المجال، وفي هذا السياق يمكن القول: إن عام 2026 يحمل في طياته تطورات مهمة في موضوع الذكاء الاصطناعي.
لعل أهم هذه المستجدات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التي تربك المجتمعات حاليا، وخصوصا في الأيام أو الأشهر القليلة الماضية ظهور التأثير المتوقع للذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وعلى الوظائف التي يفترض أن تكون حكرًا على الإنسان، فشهدنا بالفعل بعض الحوادث والأحداث التي أدى فيها توظيف الذكاء الاصطناعي إلى الاستغناء عن وظائف بشرية، أو سحبها من الإنسان لصالح الأنظمة الذكية، وهذا أمر بات واقعا ملموسا، ويمكن القول: إنه حدث فعلا.
ظل هذا الشعور المرتبط بالشواهد وأحداثها يتوالى في النمو، منها حين كنت ضمن فريق في ورشة عمل تتعلق بأساليب تسخير الذكاء الاصطناعي التوليدي وتوظيفه في عمليات التعليم الجامعي والأكاديمي، ومن ضمن الأعمال التي اشتغلنا عليها تطوير وكلاء ذكاء اصطناعي أو ما يُعرف باللغة الإنجليزية بـ «Artificial Intelligence Agents» يقومون بمهام تعليمية وعلمية متخصصة.
وتبدأ العملية بضخ المعلومات المرتبطة بحقل علمي معيّن، أو بمادة تعليمية محددة، وتدريب هذا النموذج أو هذا الوكيل على فهم طبيعة هذا التخصص أو ذلك المجال بالشكل الذي نريده نحن، واعتمادا على بيانات ومعلومات نمتلكها وقد لا تكون متاحة لغيرنا. بعد ذلك نحدد له مجموعة من المهام، ونغذّيه بالأسئلة المتوقعة، ونقوم بتدريبه وتهيئته بصورة دقيقة، ثم يُنشر ليبدأ بأداء مهامه بشكل احترافي وسريع. بالتالي يصبح هذا الوكيل قادرًا على القيام بمهام كانت تُؤدّى سابقا من قبل الإنسان، سواء في المادة التعليمية التي نقوم بتدريسها، أو في قطاعات أخرى داخل الجامعات، وكذلك في مجالات خارج الإطار التعليمي البحت.
الأمر اللافت أيضا أن هناك وكيلا آخر للذكاء الاصطناعي يتولى مهمة تقويم هذه النماذج أو الوكلاء المصممين، فيقوم بتقويم أدائهم، وتقديم ملحوظات وتحسينات عليها، وتصبح بذلك العملية برمّتها من حيث التصميم ومن حيث التقويم رهينة للذكاء الاصطناعي.
أثار هذا الواقع انتباهي، ورفع منسوب مخاوفي بأننا نقترب من مرحلة ـ ولعلها مع بدايات عام 2026 ـ انقراض عدد كبير من الوظائف، ولا أجد أن هذه تلميحات سلبية، أو أقصد بها التشاؤم بقدر ما هي نواقيس خطر ينبغي دقّها، والتنبّه لها، والاستعداد الجاد لمواجهتها بما يسمح بإعادة قدر من التوازن إلى ملف الوظائف وسوق العمل. فهناك مهام كثيرة مرتبطة بالجانب الإنساني كان الإنسان يؤديها تقليديا؛ إذ بدأنا نلحظ منذ سنوات -وخصوصا في عامي 2024 و2025- انسحاب هذه المهام تدريجيًا من دائرة السيطرة الإنسانية، وانتقالها إلى الفضاء الخوارزمي، أو إلى قدرات الذكاء الاصطناعي، فتُنجز عبر أدوات وتقنيات ذكية متقدمة.
رغم ما لديّ من تحفظات على تسخير الذكاء الاصطناعي وتوظيفه، خصوصا في مهام التعليم والعمل الأكاديمي سواء على مستوى الطلبة أو الأكاديميين، وما سبق أن أبديته من مخاوف وملحوظات تتعلق بهذا السياق؛ لكننا اليوم أمام واقع جديد يفرض نفسه علينا، وبناءً على ذلك أضحى لزاما علينا أن نبدأ في التعايش معه، وأن نعمل على التأقلم معه وفق ضوابط واضحة دون أن ننخرط فيه انخراطا أعمى أو غير محسوب. في هذا الإطار يمكن الحديث عما يشبه التزاوج بين التوظيف البشري والتوظيف الخوارزمي في أداء هذه المهام، ولا أقول هنا: إن التدخل البشري أو التوظيف البشري سيختفي كليا؛ إذ سيظل هناك قدر من الإشراف البشري تحديدا في مجالات التقويم والمراجعة، ولكن توحي بعض المؤشرات بأن هذا الدور الإشرافي ذاته يمكن أن يتراجع في غضون سنوات قادمة مع انسحاب المزيد من المهام لصالح وكلاء الذكاء الاصطناعي، وليفرض علينا واقعًا جديدًا غير مستعدين لتقبله والخضوع لبعض قوانينه الحتمية.
نلمح إلى بعض هذه التحديات التي بدأنا نلحظها منذ فترة مثل مسألة انحسار الوظائف مقابل تزايد أعداد الباحثين عن عمل، وهي مشكلة عالمية لن تكون محصورة في دولة دون أخرى، ولكن الدول التي تبادر إلى إعادة هيكلة منظوماتها التعليمية، وتحديث تخصصاتها الجامعية، وتوجيه جهودها نحو مجالات قادرة على العمل جنبا إلى جنب مع أنظمة ووكلاء الذكاء الاصطناعي المتقدمة ستكون من بين الأقل تأثرا بهذه الموجة القادمة، أو على الأقل من بين القادرين على امتصاص آثارها السلبية.
في هذا المحور تشير بعضُ التوقعات لعام 2026، ومنها ما نشرته مؤسسة «غارتنر» إلى أن ما يصل إلى 40% من تطبيقات المؤسسات ووظائفها يحتمل أن تُدار أو تُنفذ عبر وكلاء ذكاء اصطناعي متخصصين مقارنة بنسبة تقل عن 5% في عام 2025، ونراها قفزة كبيرة في غضون فترة زمنية قصيرة، وتعكس التحول العميق المتوقع في طبيعة العمل المؤسسي.
ويمثّل هذا التحول موجة الهيمنة التقنية القادمة لما يمكن تسميته بـ«أدمغة» وكلاء الذكاء الاصطناعي القادرين على تنفيذ عمليات مستقلة وشبه مستقلة. وعندما نقول: إنها شبه مستقلة فإننا نعني بذلك أن التدخل البشري سيظل موجودًا في بعض المستويات الإشرافية، ولكنه سيكون محدود النطاق، وتشمل هذه التحولات مجالات متعددة مثل الاتصالات وخدمة العملاء، والموارد البشرية، والمشتريات، والشؤون المالية، والمجالات القانونية إضافة إلى إدارة خدمات تقنيات المعلومات وغيرها.
يدفعنا كل ذلك إلى إدراك أننا أمام موجة قادمة -على حد وصف «مصطفى سليمان»- في كتابه المُشار إليه آنفا، ونتصورها موجة تثير كثيرا من الجدل والتساؤلات والمخاوف، وتحمل في طياتها تحديات جسيمة تتطلب انتباهنا المبكّر وتفاعلنا الواعي دون الوقوع في فخ التشاؤم أو التهويل، ومن الأجدى لنا أن نعمل على تسخير هذه التحولات لصالحنا بدلا من أن نجعلها مصدرا دائما للقلق المفرط، أو سببا لتراجع الشغف المهني والتوقف عن أداء الأدوار والمهام المنوطة بنا.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
