أمريكا وأوروبا والعلاقات الدولية

27 ديسمبر 2025
27 ديسمبر 2025

لماذا وكيف أصبحت علاقات الولايات المتحدة وأوروبا، في إطار التحولات الدولية المعاصرة، جديرة بالاهتمام؟ هذا سؤالٌ استراتيجي يطرحه خبراء الحقول العملية في السياسة الخارجية وباحثو السياسة الدولية. وأسباب الاهتمام بهذا الموضوع واضحة في التحولات التي تشهدها هذه العلاقة الحسّاسة والمهمة سياسيًا واستراتيجيًا. 

هذه التحولات ليست من نوع واحد؛ فهي تحولات في الرؤية وزاوية النظر، كما أنها تحولات في المجالات العملية والتنفيذية. وعند مقاربة هذا السؤال تبرز، على الأقل، ثلاثة موضوعات لافتة: «طبيعة التقاليد الاستراتيجية في العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية»، و«التوجه الأيديولوجي الجديد في الولايات المتحدة وأوروبا، ولا سيما الاتحاد الأوروبي»، و«أفعال وردود أفعال الفاعلين على ضفتي شمال الأطلسي في المرحلة الأخيرة». 

لقد قامت العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية، وما تزال، على تقاليد استراتيجية قديمة في العالم. وانتماء أوروبا والولايات المتحدة معًا إلى الكتلة الغربية، واتساع تحالفاتهما الاستراتيجية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، خلقا رسوخًا استراتيجيًا ونوعًا من الاستقرار والثبات في الروابط الأمنية والسياسية بينهما، وهو ما يزال قائمًا حتى الآن. فهما في الواقع ينتميان إلى منظومة أمنية واحدة. ومع أن حلف شمال الأطلسي كان الحلقة التقليدية الأبرز التي تربط بينهما خلال العقود الثمانية الماضية، فإن الروابط بين الطرفين لا تُختزل، حصريًا، في حلقات الناتو الأمنية وحدها. 

فهناك منظومة من المؤسسات السياسية والأمنية، الثنائية ومتعددة الأطراف، ربطت أوروبا بأمريكا وما تزال تربطهما. لذلك تتقارب سلوكياتهما داخل مؤسسات مثل الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومجموعة السبع، ومجموعة العشرين، ونظائرها، إلى حد بعيد. غير أن هذا لا يعني أولًا أن أوروبا من الداخل كتلة واحدة لا اختلاف فيها، ولا يعني ثانيًا أن أوروبا وأمريكا تفكران بالطريقة ذاتها في كل القضايا الاستراتيجية والسياسية. وإلى جانب التنوع داخل أوروبا والفوارق بين أوروبا وأمريكا، ظل «الرصيف» أو «البناء» الاستراتيجي الذي يقوم عليه هذا الارتباط مستقرًا عبر الزمن؛ لكن علامات تحوّل في هذه العلاقة الاستراتيجية الراسخة بدأت تلوح في الأفق. 

تعود هذه التحولات في الأساس إلى تغيّرات داخلية في الولايات المتحدة، أخذت خلال نحو العقود الثلاثة الماضية تتجلى بصورة خاصة وبملامح أوضح. 

وقد اشتدت الفوارق منذ قراءات وسرديات «المحافظين الجدد» في عهد جورج بوش الابن، ولا سيما في قضية الهجوم على العراق واحتلاله عسكريًا عام 2003. ومنذ ذلك الحين، وبصورة دورية وبحسب ما إذا كان الفوز من نصيب الديمقراطيين أم الجمهوريين في الولايات المتحدة، شهدت العلاقات عبر الأطلسي تحولاتٍ متعاقبة. فالديمقراطيون كانوا يميلون إلى تعزيز العلاقات بين ضفتي شمال الأطلسي، ويدعمون المؤسسات متعددة الأطراف، بما فيها الناتو والاتحاد الأوروبي؛ بينما لم يكن الجمهوريون يشعرون بالارتياح تجاه تلك المؤسسات. 

برز هذا التحول أكثر خلال الفترة الأولى لرئاسة ترامب من 2016 إلى 2020، غير أن هذه الفجوة اتّسعت في فترة ترامب الثانية وازدادت عمقًا. ويتجلى بوضوح مظهران يقومان على «السردية» في تعميق هذه الفجوة: خطاب «جي دي فانس» في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير 2025، ونشر وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» لإدارة ترامب في نوفمبر 2025. إن خطاب فانس، بلا شك، يُعدّ من أشد الهجمات والانتقادات الموجهة ضد أوروبا ومؤسساتها في التاريخ الطويل للروابط الاستراتيجية بين الطرفين. 

في خطابه، وضع فانس مجمل الديمقراطية الأوروبية موضع تشكيك، وأرسل عمليا إشارات صريحة إلى المجتمعات السياسية الأوروبية تُفهم بوصفها دعما لتعزيز اليمين المتطرف في أوروبا. كما انتقد أساليب الحوكمة الأوروبية، ولا سيما ما وصفه بخطر تقييد حرية التعبير بسبب بعض القيود القانونية التي تقف في وجه جماعات اليمين المتطرف. 

وقد بدت كلماته بمثابة انفجارٍ خطابي ومعياري، شديد الأيديولوجية، ويعلو صدى هذا المنظور بقوة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية. عمليًا، تُقدّم الوثيقة الأخيرة التي نشرتها إدارة ترامب أوروبا بوصفها كتلة عاجزة، غير فعّالة، ومتأخرة اقتصاديا وتقنيا. وليس مبالغة القول إن ذلك يمثل أعمق إذلال تعرضت له أوروبا حتى الآن. 

وتتركز الخلافات الرئيسية حول قضايا استراتيجية مثل حرب أوكرانيا، وكيفية التعامل مع الصين، وطريقة «المعايرة» أو توحيد المعايير الأوروبية في مجالات الاقتصاد والتجارة. أما رد الفعل الأوروبي على هذا النوع من النظرة فجاء حادًا نسبيًا، وإن ظلّ في الوقت نفسه حذرًا. وقد عبّر فريدريش ميرتس، مستشار ألمانيا، وأنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي، بطريقتين مختلفتين تقريبًا عن الفكرة نفسها في الرد: ومفادها أن أوروبا ليست ضعيفة إلى هذا الحد. 

لكن ردودًا أكثر جدية وعمقًا جاءت هذه المرة من جانب محللين ومؤسسات أبحاث العلاقات الدولية في أوروبا. فقد أصدر «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» ـ وهو من أبرز المؤسسات البحثية في القارة ـ تقريرًا بقلم اثنين من كبار باحثيه، خلص فيه إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى تحويل علاقتها بأوروبا من علاقة استراتيجية إلى علاقة أيديولوجية، تتمحور حول التفكير اليميني الأوروبي، إلى جانب توظيف اقتصادي واضح. 

ويذهب المجلس، في تقريره، إلى أن وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» الأمريكية في ولاية ترامب الثانية ليست تعبيرًا عن خط واحد متماسك بقدر ما هي نتاج شدٍّ وجذب بين ثلاثة اتجاهات داخل الإدارة: أولها الاتجاه الأيديولوجي الذي يمثله فانس، نائب الرئيس؛ وثانيها الاتجاه «التعاوني» الذي يمثله ماركو روبيو، وزير الخارجية؛ وثالثها اتجاه تجاري ـ اقتصادي ذو طابع شخصي وعائلي يرتبط بستيف ويتكوف وجاريد كوشنر وترامب. 

وإلى ما وراء التحليل التفصيلي، يكاد يتشكل شبه إجماع في قراءات الخبراء الأوروبيين على أن إدارة ترامب، وهي تسعى إلى تحقيق أهدافها الهيمنية، تعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبي ـ بل وتقويضه ـ بوصفه إطارًا متعدد الأطراف. ومهما يكن، فإن الشقوق الاستراتيجية بين أوروبا والولايات المتحدة في المرحلة الجديدة، ولا سيما في قضايا أمن أوروبا وبشكل خاص ملف أوكرانيا، تبدو جادة ومقلقة. 

 سيد محمدكاظم سجادبور: كاتب وباحث إيراني في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، يكتب في صحيفة «اطلاعات»، وتركّز مقالاته على تحولات النظام الدولي والعلاقات عبر الأطلسي وقضايا الأمن الإقليمي والدولي. 

 عن صحيفة إطلاعات الإيرانية 

 تمت الترجمة عن الفارسية باستخدام الذكاء الاصطناعي