أين الأمل بين نهاية العام وبدايته؟
الماضي مرجعية الحاضر، مقياسه الذي يقاس به. والمستقبل هو غاية المقياس الذي نريد بلوغه بهذا الحاضر. كلٌ منا يراجع نفسه وعامه العام، وقفة المراجعة ضرورية لمعرفة أين نحن من الزمن الشخصي. والمراجعة العامة ضرورة لمعرفة أين نحن من الزمن الجمعي. ونهاية العام وبدايته فرصة لمراجعة المسارات وتصويبها نحو أهدافنا، أيًا كانت هذه الأهداف؛ ذلك أن تيار الزمن وأحداثه تؤثر علينا، والعالم كأنه مصيدة تشغلك عن نفسك وذاتك، وتلاحقك بالمتغيرات؛ كأن العالم يريد جذبك بسرعة إلى نهايتك.
مع ذلك، هناك داخلنا من الدوافع ما يجعلنا نعاود تصويب مساراتنا وطرقنا، للبحث عن غايات أسمى لحياتنا الشخصية، وعن أعمال تقودنا لتلك الغايات. فقبل أن يستسلم المرء للتيار عليه أن يحدد الاتجاه داخله. وحين تكون الدفة الداخلية صائبة ومسترشدة تصل غاياتها. أما القارب الذي يلعب به البحر والتيار فمصيره معروف، ولن يبلغ غايته بحال من الأحوال.
ما الذي نحتاجه نهاية العام؟ تبسيط المسارات المعقدة؟ تركيز القواعد والمبادئ؟ رحلة الحياة تشبه سفر السفن، كل سفينة بحاجة إلى مراجعة موقعها ووجهتها وموقعها من الشمس والنجوم والبر والقاع. هكذا هي الرحلة، مراجعة الحسابات تضمن بلوغ الموانئ المنشودة، والسفينة الجسد وكل ما يهدد السفينة يغرقها؛ السفينة من خشب، والخشب قابل للعطب، والجسد كالسفينة من مواد قابلة للعطب والغرق والتحطم، لذلك فإن كل مرحلة يجب أن تحسب بدقة. وكما للسفينة حمولتها وبحارتها وركابها، فللجسد كذلك حمولته وبحارته وركابه؛ وهنا يفرق الجسد عن السفينة ذلك أن خسائر السفن ما عدا الأرواح يمكن تعويضها، أما الجسد فكل خسارة هي خسارة في الروح، وإذا كانت الروح يمكنها تجديد نفسها ـ ما دامت باقية ـ فإن فناءها لا يعوّض بثمن.
مع عبور الزمن عامًا آخر من زاويتنا في هذا العالم يبدو لي أن شيئًا ما ما زال ينقصنا، شيئًا ملحًا وضروريًا ونحتاجه أكثر من أي شيء آخر، وأن هذا الشيء لو عثرنا عليه لعاد كل شيء لمجراه الطبيعي، ولما تقطعت بنا الطرق، يمكننا أن نسمي هذا الذي ينقصنا الروح، فهي الروح التي نحتاجها، أكثر من القوانين والنظام، أكثر من الشرعة الدولية المتذبذبة وتحالفات القوى المتناقضة والمعاهدات بأنواعها، فكل تلك مجرد قشرة سرعان ما تسقط، ومع أنها مجرد قشرة غير أن الحفاظ عليها يرهق الموارد ويكبّد الخسائر، وأسوأ ما في الأمر أن الحفاظ على النظام الميت من داخله يقتل الأرواح أكثر مما تقتل الجوائح والكوارث والحروب مجتمعة. أما الروح فإن انتعاشها ينعش كل شيء، بدءًا من الجسد وليس نهاية بالجمادات والمفاهيم والنظم.
في دراسته لسقوط الاتحاد السوفييتي وفي مقدمة كتابه المعرفة والمصلحة يلمح الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس إلى أن ما أسقط الاتحاد السوفييتي نهاية التسعينات لم يكن شيئًا آخر غير انهيار إيمان الناس داخلهم بقدرة النظام على الاستمرار، وذلك الانهيار داخلهم جرّ لانهياره الفعلي، فانهارت بذلك إمبراطورية الاتحاد السوفييتي التي ورثت الإمبراطورية القيصرية لآل رومانوف. ومن الصدف أن الروائي والمترجم أحمد الرحبي ترجم الأسبوع الماضي في الملحق الثقافي مقالة نادرة للروائي الروسي الشهير تولستوي كتبها عام ١٩٠٨م، أي على بعد أقل من عقد واحد على قيام ثورة فبراير ١٩١٧م، والتي قادت لانهيار الإمبراطورية القيصرية الروسية وانتصار البلاشفة وقيام الاتحاد السوفييتي، وفي مقالته لا يحذر تولستوي من شيء آخر غير انهيار العدالة وانهيار الروح.
أما في نهاية القرن ومع نهايات الاتحاد السوفييتي الذي ورث تلك القيصرية فسنجد نفس تلك النبرة التحذيرية عند كتاب الاتحاد السوفييتي وفنانيه، كما نجدها مثلًا في كتاب ارخبيل الغولاغ لالكسندر سولجنستين، وفي فيلم المرآة للسينمائي اندريه تاركوفسكي، وغيرهم كثر، وكلها تحذيرات لم تجد نفعًا، حتى السقوط الأخير، ومع أن الأنظمة تحاول المحافظة حتى لحظات انهيارها الأخيرة على قشرتها الساترة، إلا أن تلك القشرة لا تجدي نفعًا حين يحين الوقت، وفي عالمنا العربي في هذا القرن من الأمثلة الشبيهة أكثر من مثال معاصر.
لكن لسنا وحدنا من تنقصنا الروح، فالعالم بأسره بأشد الحاجة إلى الروح المفقودة، ومن يشتغل طويلًا في الفنون المختلفة يعلم أن اللب الفني لا يكمن في الشكل التعبيري بقدر ما يكون في قوة التعبير، ومن أين تأتي قوة التعبير إن لم يكن من الروح؟
لكن كيف يمكن إعادة الروح وبعثها من جديد؟ الإجابة البسيطة والتي قد تبدو للبعض ساذجة وسطحية هي ببث الأمل، ولكن الأمل الصادق وحده هو الذي بمقدوره بث الروح وبعثها، أما الأمل الكاذب فإنه يبث ويبعث اليأس وحده، والأمل يمكن بثه ببساطه إذا استطعنا أن نجعل الشباب منا أكثر إيمانًا بانفتاح غدهم، وهذا الأسبوع سيتدفق الشباب نحو اختبارات الدبلوم العام وبقدر إيمانهم بأنفسهم وقدرتهم يتعلق الأمل وتتعلق الروح، فإذا كان هذا الجيل يؤمن بغده فنحن على المسار الصحيح، وإن لم يكن فنحن في مسار خاطئ.
الأجيال تتلاحق، وكل جيل يضع عينه على الجيل المجاور له، وكلما أدرك أن الأفق أوسع كلما اتقد داخله الأمل، وما الذي يحرك المجتمعات ويشكل ديناميكيتها إن لم يكن الشباب، تلك الطاقة الإنسانية الجبّارة التي ندعوها الشباب، وهي الطاقة التي تتوقف عليها صحة الأمم والبلدان ومرضها، أملها ويأسها، حياتها وموتها، فكل بوابات المستقبل إنما هي داخل قلوب الشباب.
بقدر إيماننا بالشباب يكون غدنا، وبقدر تمكينهم وإفساح المجالات لهم بقدر ما يؤمنون هم بأنفسهم، وعلى إيمانهم هم بأنفسهم تعتمد نجاتنا الجمعية. تلك هي الروح التي باتقادها وتوهجها ونضارتها وشبابها يعود كل شيء لمجراه، وترفرف أعلام الأمل عاليًا. وحين يحدث ذلك تعود الروح المفقودة لكل شيء، ويزدهر الإلهام والحماس والصدق والحب والإبداع في كل شيء.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
