تشيلي وصعود اليمين المتشدد في أمريكا اللاتينيّة

27 ديسمبر 2025
27 ديسمبر 2025

جون لي أندرسون 

ترجمة: بدر بن خميس الظّفري 

في الرابع عشر من ديسمبر فاز السياسي اليميني المتشدد خوسيه أنطونيو كاست في جولة الإعادة الانتخابية ليصبح الرئيس المقبل لدولة تشيلي. وبفوزه هذا انضم عضو جديد إلى النادي الآخذ في الاتساع لقادة اليمين في أميركا اللاتينية. 

وقد بعث فيكتور أوربان الحاكم السلطوي في المجر برسالة تهنئة حافلة بالحفاوة إلى كاست، كما فعل إيلون ماسك الذي يخوض صراعاً مستمراً مع سياسيين يساريين في المنطقة. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد نسب الفضل إلى نفسه في هذا الفوز مضيفاً: «أسمع أنه شخص جيد جداً». 

وخلال الفترة الأخيرة هيمنت على الأخبار القادمة من أميركا اللاتينية مساعي ترامب لفرض نسخته الخاصة من «مبدأ مونرو»، أي تدخل فجّ يشمل تأييد مرشحين في الانتخابات، ثم الادعاء بوقوع تزوير إذا جاءت النتائج دون المتوقع، وفرض الإرادة الأميركية عبر العقوبات والرسوم العقابية، ونشر البحرية الأميركية قبالة السواحل الفنزويلية لتهديد نظام الرئيس نيكولاس مادورو. 

وفي خضم هذا المناخ المشحون قدّم السياسيون في تشيلي نموذجاً لسلوك رصين؛ فقد اعترفت منافِسةُ كاست، وهي سياسية شيوعيةٌ تُدعى جانيت خارا سريعاً بفوزه وهنأته. وكذلك فعل الرئيس الحالي غابرييل بوريك، وهو اشتراكي ديمقراطي سيغادر منصبه في مارس بعد أربع سنوات في الحكم، فالدستور في تشيلي لا يسمح للرؤساء بتولي ولايتين متتاليتين. 

غير أن نتيجة الانتخابات تحمل مفارقة مقلقة لمن ينظر إليها بزاوية تاريخية. فوالد كاست مهاجر ألماني كان ضابطاً سابقاً في صفوف النازيين ما يعني أن البلد الذي وفّر يوماً ملاذاً لمجرم الحرب فالتر راوف ـ الذي أشرف على شاحنات غاز متنقلة قتلت نحو مائة ألف يهودي خلال الحرب العالمية الثانية ـ انتخب الآن ابن نازي آخر رئيساً له. 

وعندما أثرتُ هذه النقطة مع أحد معارفي من أنصار كاست وبّخني قائلا: إن خطايا القرن العشرين لم تعد ذات صلة اليوم. لكن ثمة تشابكات أخرى مقلقة مع الماضي السلطوي. 

فكاست سيكون أكثر السياسيين يمينية يتولى قيادة تشيلي منذ الجنرال أوغستو بينوشيه الذي استولى على السلطة بانقلاب دموي عام 1973، وحكم البلاد سبعة عشر عاماً طويلة، قُتل خلالها ثلاثة آلاف شخص وتعرض عشرات الآلاف للتعذيب. 

ووفقاً لما يورده كتاب حديث للكاتب فيليب ساندز بعنوان كتاب «شارع 38 لندن»؛ كان بينوشيه المعروف بإعجابه بالثقافة الألمانية قد التقى راوف في الإكوادور بعد الحرب بسنوات، ودعاه إلى تشيلي. 

وهناك عمل راوف مديراً لمصنع لتعليب السلطعون في باتاغونيا، ويُعتقد أنه عمل أيضا محققا في أحد مراكز التعذيب التابعة لنظام بينوشيه. وقد عاش بقية حياته في تشيلي من دون ندم على جرائمه محتميا من تسليمه إلى العدالة. 

وبالنسبة لأولئك الذين يتذكرون الإفلات من العقاب في تلك الحقبة؛ فإن انتخاب كاست يشير إلى نهاية فترة امتدت خمسة وثلاثين عاما رفض خلالها معظم التشيليين إرث بينوشيه. وقد قال باتريسيو فرنانديز -وهو معلق تشيلي بارز- أخيراً: «كاست لم ينتقد ديكتاتورية بينوشيه قط، وبهذا المعنى فهو يمثل أحد أوفى ورثته». 

وبالفعل دأب كاست على الإشادة بنظام بينوشيه الذي شغل فيه أحد إخوته منصب وزير، ثم منصب محافظ البنك المركزي. وفي عام 1988 عندما دعا بينوشيه إلى استفتاء وطني لتمديد حكمه كان كاست -وهو طالب قانون في الثانية والعشرين من عمره آنذاك- من أبرز الداعمين له. 

وقد فشل ذلك الاستفتاء، وبعد عامين عادت تشيلي إلى الديمقراطية. ورغم ميوله السلطوية استفاد كاست من الحريات السياسية التي أُعيدت. فقد فاز بمقعد برلماني عام 2001، وبدأ لاحقا الترشح للرئاسة. 

وفي عام 2017 حل رابعا، ثم جاء ثانيا بعد بوريك بعد أربع سنوات عقب تأسيسه حزبا يمينيا خاصا به. وقد اعترف بهزيمته آنذاك من دون اعتراض. ويتميّز كاست عن بعض نظرائه اليمينيين بأسلوبه الأقل صخباً؛ فهو ليس استعراضياً مثل خافيير ميلي في الأرجنتين، ولا قاسيا بشماتة مثل ناييب بوكيلي في السلفادور. 

وهو كاثوليكي مناهض للإجهاض، أب لتسعة أطفال، يعارض زواج المثليين وحقوق المتحولين جنسيا، ويعترض على الضرائب وعلى توسع دور الدولة، ولا يحبذ القيود البيئية، لكنه يقدّم مواقفه بلغة قانونية هادئة تبدو معقولة في ظاهرها. 

بعد خسارته أمام غابرييل بوريك بنى خوسيه أنطونيو كاست قاعدته الشعبية عبر تضخيم المخاوف المرتبطة بالهجرة غير المنضبطة وتزايد الشعور بانعدام الأمن العام. وتتمتع تشيلي بمستوى معيشة أعلى من معظم دول الجوار ما يجعلها وجهة جاذبة للمهاجرين. وخلال العقد الماضي دخل البلاد نحو مليوني مهاجر في دولة لا يتجاوز عدد سكانها تسعة عشر مليون نسمة. وكما هو الحال في الولايات المتحدة حُمّل الوافدون الجدد مسؤولية ارتفاع معدلات الجريمة العنيفة. 

وقد تعهّد كاست بالرد بحزم؛ إذ وعد بترحيل أكثر من ثلاثمائة ألف مهاجر غير موثّق -كثيرون منهم من فنزويلا- وبإنشاء عدد من مراكز الاحتجاز المشددة الحراسة لاستيعاب آخرين. ولوقف تدفق المهاجرين قال: إنه سيقيم أسوارا، ويحفر خنادق على الحدود مع بوليفيا وبيرو. 

وعاشت تشيلي عقداً من التذبذب بين يسار الوسط ويمين الوسط، ويأتي انتخاب كاست خروجاً عن هذا النمط، وفي الوقت نفسه صدى لاتجاه إقليمي أوسع نحو السلطوية. وبعد فوزه سافر كاست إلى الأرجنتين؛ حيث التقى خافيير ميلي الذي يصف نفسه بأنه «فوضوي رأسمالي»، وهو تيار يدعو إلى تقليص سلطة الدولة إلى الحد الأدنى وترك السوق يعمل بلا قيود، ويطرب أنصاره بهجمات استعراضية على خصومه. 

وفي تبادل رسائل عبر تطبيق واتساب معي بعد فوز كاست؛ عزا ميلي صعود اليمين في أميركا اللاتينية إلى نفاد صبر الناخبين من «الضرائب الخانقة»، و«عدم الكفاءة والامتيازات الفجّة ونفاق السياسيين اليساريين». والتقط الرجلان صورا إلى جانب منشار كهربائي، وهو الرمز الذي اتخذه ميلي شعاراً لجهوده الرامية إلى تقليص حجم الحكومة. ومنذ توليه المنصب عام 2023 ألغى ميلي نصف وزارات الأرجنتين، كما أعلن ولاءً مطلقاً لدونالد ترامب مكررا كثيرا من مواقفه. 

وفي المقابل قدمت الولايات المتحدة مليارات الدولارات على شكل حزم إنقاذ للمساعدة في تخفيف عبء الديون الهائلة على الأرجنتين. ووقف كاست إلى جانب ميلي ليهتف بأسلوب مسرحي: «الحرية تتقدم في أنحاء أميركا اللاتينية»! غير أنه عندما سأله الصحافيون عما إذا كان يعتزم استيراد «أيديولوجيا المنشار» إلى تشيلي تهرّب من الإجابة مكتفيا بالقول: إن فريقه كان «يتشاور» مع حكومات صديقة من بينها الإدارات اليمينية في الأرجنتين والمجر وإيطاليا والولايات المتحدة. 

وقال كاست أيضا: إنه تحدث مع مرشحين محافظين اثنين كان قد هزمهما في الانتخابات التشيلية ملمحا إلى احتمال ضمهما إلى حكومته. الأول هو وزيرة العمل السابقة إيفلين ماتي التي كان والدها جنرالا في نظام بينوشيه. 

والثاني سياسي يميني متشدد صاخب يحمل اسما لافتا هو يوهانس ماكسيميليان كايزر بارنتس-فون هوهِنهاغن. 

وكايزر -وهو أيضا من أصول ألمانية- يشترك مع كاست في كثير من آرائه، لكنه يطرحها بلهجة أكثر حدّة؛ إذ يعرّف نفسه بأنه «تحرري بدائي»، وهو تيار يمزج بين الليبرتارية والنزعة المحافظة التقليدية، و«رجعي»، ويؤيد إنشاء معسكرات احتجاز للمهاجرين غير الموثقين وإغلاق الحدود مع بوليفيا بالكامل. كما يدعو إلى الإفراج عن معذِّبين وقتلة من حقبة بينوشيه. 

ويشارك كاست هذا الموقف أيضاً، لكنه يعبّر عنه بعبارات أكثر مواربة. ففي وقت سابق من هذا الشهر، وأثناء مناقشة البرلمان التشيلي مشروع قانون للإفراج عن قمعيين مسنين أو مصابين بأمراض خطيرة، قال كاست: «أنا لا أؤمن بالمساومات القضائية. أؤمن بالعدالة. وهذا يعني معاملة الأشخاص المصابين بأمراض مميتة، أو أولئك الذين لم يعودوا في كامل وعيهم، باحترام». 

في عام 2023 وفي الذكرى الخمسين لانقلاب بينوشيه ذكّر غابرييل بوريك التشيليين بالثمن الفادح الذي دفعته بلادهم، وأعلن إطلاق خطة وطنية للبحث عن مصير ما يصل إلى ثلاثة آلاف مواطن ما زالوا في عداد المفقودين، ففي تشيلي هناك عشرات الآلاف ممن نجوا من اعتداءات ارتكبتها دولتهم بحقهم، أو فقدوا أحباء لهم. 

وهذا يعني أن كاست سيُضطر على الأرجح إلى التحرك بحذر في قضايا «الذاكرة التاريخية». غير أنه بعد نصف قرن على انقلاب بينوشيه تبرز في نصف الكرة الغربي نزعة مقلقة. 

فقد أطاح ذلك الانقلاب بحكومة اشتراكية كانت حليفة لكوبا في عهد فيديل كاسترو، وساعدت عليه إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وحلفاؤها الإقليميون من الأنظمة العسكرية اليمينية التي مضت لاحقاً في شن سلسلة من «الحروب القذرة» ضد مواطنين يساريين في بلدانها. وفي المواجهة الراهنة بين ترامب والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو -الذي وسمه ترمب بأنه «إرهابي مخدرات»- أيد يمينيون مثل كاست وميلي الدفع لإخراجه من السلطة بالقوة. 

وتعكس لهجة ترامب العدائية في أميركا اللاتينية لغته داخل الولايات المتحدة؛ حيث يهاجم سياسيين ديمقراطيين واصفاً إياهم بـ«المجانين اليساريين»، ويصف المحتجين على سياسات الترحيل بأنهم «نشطاء أنتيـفا»، وهي حركة مناهِضة للفاشية. 

كما عمل ترامب على محو ماضٍ غير مريح فارضا إعادة صياغة للروايات التاريخية في المدارس والمتنزهات الوطنية والمؤسسات الثقافية، وذهب إلى حد الادعاء بأنه بعد ثلاثة عقود على نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؛ فإن البيض من أصول بويرية هم «الضحايا الحقيقيون للعنصرية» (البوير: جماعات من أصول أوروبية استوطنت جنوب أفريقيا). 

وكاست -على الرغم من مظهره الهادئ- ردد نبرة ترامب المتشددة؛ فقد دعا إلى «جعل تشيلي دولة عظيمة»، وقال إنها تحتاج إلى أن تُحكم «بيدٍ حازمة». وكان شعار حملته الانتخابية «قوة التغيير». 

ومن الصعب الجزم إلى أي مدى يمكن أن يذهب هو ونظراؤه في المنطقة. ففي الأرجنتين وبيرو دفع سياسيون يمينيون بالفعل نحو طمس قوانين حقوق الإنسان؛ بغية الإفراج عن عسكريين سُجنوا بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد لخّص دانيال نوبوا -رئيس الإكوادور وحليف ترامب- هذا التحول في الروح العامة خلال مقابلة أجريتها معه أخيراً؛ إذ قال: «كان القرن الحادي والعشرون قائما على مفهوم العدالة الاجتماعية. وقد نجح ذلك لفترة، ثم أصبح أكثر ظلماً مما كان عليه من قبل. انهار المفهوم الأساسي، وأتاح ذلك فرصة لليمين». 

وأضاف أن الناس باتوا في رأيه يريدون القوة إلى جانبهم «أي شيء أكثر صرامة وقوة في مواجهة الجريمة والطبقة السياسية». 

 جون لي أندرسون كاتب في هيئة تحرير مجلة ذا نيويوركر، وقد غطّى على مدى سنوات صراعات ونزاعات في أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط. من مؤلفاته كتاب «خسارة حرب: سقوط طالبان وصعودها من جديد» 

 الترجمة عن مجلة ذا نيويوركر.