لحظتنا البروميثية الجديدة

22 مارس 2023
22 مارس 2023

ترجمة: أحمد شافعي -

مررت الأسبوع الماضي بلحظة من أشد اللحظات روعة، وإن تكن تجربة مثيرة للقلق. فقد كان كريج ماندي الرئيس السابق للأبحاث والاستراتيجية في شركة ميكروسوفت يعرض جي بي تي فور GPT-4 وهو أحدث نسخة من برنامج الذكاء الاصطناعي تشات جي بي تي ChatGPT للدردشة، وهي نسخة طورتها (أوبن آيه آي) وأطلقتها في نوفمبر الماضي. كان كريج يجهز لعرض أمام متحف زوجتي المعروف بـ(كوكب الكلمة) Planet Word وهو عضو فيه، ويتناول العرض أثر (تشات جي بي تي) على الكلمات واللغة والابتكار.

نبهني كريج قبل بداية العرض بقوله «عليك أن تفهم أن هذا سوف يغير كل شيء في طريقة قيامنا بكل شيء. أعتقد أنه يمثل أعظم ابتكار للإنسانية حتى اليوم. هو مختلف نوعيا، وسوف يكون نقطة تحول».

أضاف كريج أن الوحدات اللغوية الكبرى مثل (تشات جي بي تي) سوف تقوم بزيادة قدراتها باطراد وتمضي بنا «إلى شكل من الذكاء الاصطناعي العام» الذي يقدم «في كل مجال» كفاءات في العمليات والأفكار والاكتشافات والرؤى «لم يكن من سبيل إليها».

ثم قدَّم العرض. وأدركت أن كلمات كريج بخست الأمر حقه.

أولا، طلب من (تشات جي بي تي) ـ الذي اختير كريج ليكون من مختبريه والذي تم إطلاقه للتو للجمهور ـ أن يلخص (كوكب الكلمة) ومهمته في أربعمائة كلمة. ففعل ذلك ببراعة، وفي ثوان معدودة.

ثم طلب منه أن يفعل ذلك في مائتي كلمة. وإن هي إلا ثوان أخرى.

ثم طلب منه أن يفعل ذلك بالعربية. وبالسرعة نفسها. ثم بلغة المندرين. فلم يستغرق غير ثانيتين أخريين. ثم بالإنجليزية مرة أخرى لكن على شكل سونيتة شكسبيرية. فهي ثوان إضافية.

ثم طلب كريج من (جي بي تي فور) أن يكتب الوصف نفسه شعرًا حروفيّا ـ أي يبدأ البيت الأول بحرف اللغة الأول، والثاني بالحرف الثاني وهكذا حتى نهاية الحروف. ففعلها بإبداعية مذهلة، بادئا كالتالي:

أقيم بحاضرة الأمريكان

بناءٌ مهيب لفهم اللسان

تحج القلوب له والنُّهى

ثم تغرق مفتونة في البيان

جميع الذي فيه يحكي لنا

حكايا الحروف وخط البنان

وهكذا تمضي القصيدة حتى حرف الياء.

لا أحسبني نمت في تلك الليلة. فبعد مشاهدة نظام للذكاء الاصطناعي، ببرامجه وشرائحه الدقيقة واتصاله، وقدرته على ذلك المستوى من الأصالة في العديد من اللغات في غضون ثوان قليلات في المرة الواحدة، كان أول ما خطر لعقلي هو قول كاتب الخيال العلمي آرثر كيه كلارك: إن «أي تكنولوجيا على قدر كاف من التقدم هي بمثابة ضرب غامض من السحر».

وثاني ما خطر لعقلي كان لحظة في بداية «ساحر أوز» ـ في مشهد الإعصار إذ يرتفع كل شيء وكل شخص وسط دوامة متحركة، فمنهم دوروثي وتوتو، ثم ينجرف الجميع من حياة كنساس التافهة المعروضة بالأبيض والأسود إلى أرض أوز المستقبلية المتلألئة حيث كل شيء بالألوان.

نحن على وشك أن يضربنا مثل هذا الإعصار. فلقد بدأت في حياتنا لحظة بروميثية، أي حركة من حركات التاريخ التي تشهد ظهور الجديد في الأدوات، أو طرق التفكير أو مصادر للطاقة فتكون انفصالا عما كان قائما قبلها وتطويرا وتغييرا لا لشيء واحد بل لكل شيء في آن واحد. أعني طريقة الإبداع، وطريقة التنافس، وطريقة التعاون، وطريقة العمل، وطريقة التعلم، وطريقة الحكم، وأيضا طريقة الغش واقتراف الجرائم وخوض الحروب.

ونحن نعلم الحقب البروميثية المحورية على مدر السنين الستمائة الماضية: اختراع المطبعة، والثورة العلمية، والثورة الزراعية مجتمعة مع الثورة الصناعية، وثورة الطاقة النووية، والحاسوب الشخصي والإنترنت ... وحانت الآن هذه اللحظة.

الفارق الوحيد أن دافع هذه اللحظة ليس اختراعا واحدا، شأن المطبعة أو المحرك البخاري، وإنما هو دورة تقنية فائقة. هي قدرتنا على أن نحس ونرقمن ونعالج ونتعلم ونشرك ونعمل، وكل ذلك بمساعدة متزايدة من الذكاء الاصطناعي. وهذه الحلقة توضع في كل شيء ـ من سيارتك إلى ثلاجتك إلى هاتفك الذكي إلى الطائرات المقاتلة ـ وتقود المزيد والمزيد من العمليات كل يوم.

ولذلك فإنني أطلق على عصرنا البروميثي «عصر التسارع والتضخيم والديمقراطية». فلم يسبق من قبل لعدد أكبر من البشر أن امتلكوا أدوات أرخص لتعظيم قوتهم بوتيرة تتسارع باطراد. وتنتشر في الحياة الشخصية والعملية لعدد متزايد من الأشخاص في وقت واحد. ويحدث ذلك بأسرع مما كان يتوقع أي شخص.

والمثير للإعجاب العظيم هو إمكانية استخدام هذه الأدوات لحل المشكلات التي تبدو مستحيلة - من البيولوجيا البشرية إلى طاقة الاندماج إلى تغير المناخ. وتأملوا مثالا واحدا وحسب، ربما لم يسمع به معظم الناس- وهو الطريقة التي يعمل بها ديبمايند DeepMind أي: العقل العميق وهو مختبر ذكاء اصطناعي مملوك للشركة الأم لجوجول وهي ألفابت Alphabet التي استعملت أخيرا نظام ذكائها الاصطناعي ألفافولد لحل واحدة من أبشع مشاكل العلم - بسرعة ونطاق أذهلا علماء أمضوا حياتهم المهنية وهم يقتربون ببطء وعلى مهل من الحل.

تُعرف المشكلة باسم طي البروتين. والبروتينات جزيئات معقدة كبيرة، مؤلفة من سلاسل من الأحماض الأمينية. وكما أوضح كيد ميتز زميلي بالتايمز في ما كتبه عن ألفا فولد، فإن البروتينات هي «الآليات المجهرية التي تحرك سلوك الجسد الإنساني وجميع الكائنات الحية الأخرى».

غير أن ما يمكن أن يفعله كل بروتين يعتمد إلى حد كبير على هيكله الفريد ثلاثي الأبعاد. أضاف ميتز أنه فور أن يتمكن العلماء من «تحديد أشكال البروتينات، سوف يمكنهم تسريع القدرة على فهم الأمراض، وابتكار أدوية جديدة، واستكشاف أسرار الحياة على الأرض».

ولكن مجلة ساينس نيوز أشارت إلى أن الأمر استغرق «عقودًا من التجارب البطيئة» للكشف عن «بنية أكثر من 194000 بروتين، جميعها موجودة في بنك بيانات البروتين». وفي عام 2022، «هبت قاعدة بيانات بهياكل متوقعة لأكثر من 200 مليون بروتين». وهذا بالنسبة لإنسان قد يساوي جائزة نوبل. أو ربما اثنتين.

وبهذا قفز فهمنا لجسم الإنسان قفزة هائلة إلى الأمام. كما جاء في ورقة علمية صدرت عام 2021 عن مركز سياسات الحزبين بعنوان «الكشف عن إمكانات الذكاء الاصطناعي»، فإن ألفا فولد هو ميتا تقنية: «والميتا تقنيات تمتلك القدرة على... المساعدة في العثور على أنماط تساعد الاكتشافات في كل تخصص تقريبا».

و(تشات جي بي تي) هو أيضا ميتا تقنية أخرى من هذا القبيل.

ولكن كما اكتشفت دوروثي عند نقلها فجأة إلى أوز، كانت هناك ساحرة طيبة وساحرة شريرة، وكلتاهما تتصارع على روحها. وكذلك سيكون الحال مع أمثال (تشات جي بي تي) وجوجول بارد وألفافولد.

هل نحن مستعدون؟ الظاهر أننا لسنا كذلك: فنحن لم نزل نتناقش حول حظر الكتب في فجر تقنية يمكنها تلخيص أي كتاب تقريبا، فضلا عن إجابتها أسئلة الجميع عنها في كل مكان في ثانية.

وشأن العديد من التقنيات الرقمية الحديثة القائمة على البرامج والرقائق، فإن الذكاء الاصطناعي يمثل «استخداما مزدوجا»- فيمكن أن يكون أداة أو سلاحا.

المرة الأخيرة التي اخترعنا فيها تقنية بهذه القوة هي حينما أنشأنا طاقة نووية - يمكن استخدامها لإضاءة بلد بالكامل أو لمحو الكوكب عن بكرة أبيه. لكن الطاقة النووية شيء أنشأته حكومات، ثم اجتمعت على إقامة نظام من الضوابط للحد من انتشارها ووصولها إلى جهات شريرة - وليس الوضع مثاليا لكن لا بأس به.

أما لذكاء الاصطناعي، في المقابل، فرواده شركات خاصة ربحية. والسؤال الذي يجب أن نطرحه، حسبما ذهب كريج، هو كيف نحكم بلدا، وعالما، يمكن فيه أن تكون تقنيات الذكاء الاصطناعي «أسلحة أو أدوات في كل مجال»، بينما تتحكم فيها الشركات الخاصة وتتسارع قوتها كل يوم؟ وكيف يمكن أن نفعل ذلك بطريقة تختلف عن التخلص من الطفل عند التخلص من مياه استحمامه.

سوف نحتاج إلى إنشاء ما أسميه بـ«التحالفات التكيفية المعقدة» - حيث يجتمع رجال الأعمال والحكومة وأصحاب المشاريع الاجتماعية والمعلمون والقوى الكبرى المتنافسة والفلاسفة الأخلاقيون لتحديد كيفية الحصول على أفضل ما في الذكاء الاصطناعي والتخفيف من حدة أسوأ ما فيه. فليس في هذا التحالف لاعب يمكنه حل المشكلة بمفرده. إنما يقتضي الأمر نظاما في الحكم شديد الاختلاف عن سياسات اليسار واليمين التقليدية وسوف يكون لزاما علينا أن ننتقل إلى هذا النظام وسط أسوأ التوترات بين القوى الكبرى منذ نهاية الحرب الباردة والحروب الثقافية التي تندلع داخل كل بلد ديمقراطي تقريبا.

وخير لنا أن نفهم هذا بسرعة لأننا، يا توتو، لم نعد في كنساس.

الترجمة النثرية للأبيات قد تكون على النحو التالي: آسرٌ في واشنطن، متحف عظيم / بني للتعليم، والإلهام، ومساعدتنا على أن نفهم / تتدفق العقول على (الكوكب) لتعانق الكلمة / ثم تغوص في اللغة وجمالها المركب / جميع ما هنا من معروضات عندها قصص تحكيها / حتى عن أصل الكلام، وفنون اليراع.