قدرة السياسات الثقافية

12 يونيو 2021
12 يونيو 2021

عائشة الدرمكي -

إن دعم الحركة الثقافية المتنامية للمجتمعات يحتاج إلى إعداد (سياسات ثقافية) قادرة على تنظيم هذه الحركة وإدارتها بشكل يُسهم في تطورها ونموها من ناحية، والحفاظ على حقوق الأفراد وحريتهم الفكرية من ناحية أخرى. الأمر الذي جعل السياسات الثقافية تدخل ضمن المسؤولية المجتمعية للدول بالشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات المعنية بالثقافة، إضافة إلى الأفراد المبدعين.

تعني السياسات الثقافية «مُجمل الخطط والأفعال والممارسات الثقافية التي تهدف إلى سد الحاجات الثقافية لبلد ما أو مجتمع ما، عبر الاستثمار الأقصى لكل الموارد المادية والبشرية المتوفرة لهذا البلد أو المجتمع»- بحسب (مدخل إلى السياسات الثقافية في العالم العربي) تحرير حنان الحاج علي -. ولهذا فإن هذه السياسات تشمل مجمل القوانين والتشريعات والرؤى الاستراتيجية، والخطط التنفيذية، والمبادرات الساعية إلى تنظيم ثقافة المجتمع، وتطويرها وفقا للمعطيات الوطنية والتطلعات الدولية.

ولأهمية هذه السياسات في التنمية الثقافية كانت سلطنة عُمان من أوائل الدول التي أولتها عناية فائقة بدءا من النظام الأساسي للدولة، وحتى إصدار العديد من القوانين المتعلقة بالملكية الفكرية والتراث الثقافي وتنظيم الإعلام وغيرها، إضافة إلى اللوائح التنظيمية لعمل مؤسسات المجتمع المدني والفِرق الفنية بأنواعها، والمبادرات الثقافية. حتى أصبح لدينا منظومة تشريعية لمجالات الثقافة المختلفة تسهم في دعم الحِراك الثقافي للمجتمع، وتطور تطلعاته.

ولعل حركة الثقافة في المجتمع العماني تنمو بشكل لافت نتيجة للتنمية الثقافية التي تأسس عليها، وما يتمتع به من قدرة على مواكبة الحِراك الثقافي في العالم، ولهذا سنجد أن العديد من تلك التشريعات واللوائح التنظيمية جاءت لاحقة لذلك الحِراك؛ أي أنها نتيجة لحركة المجتمع وبنائه المستمر، فمن ذلك نجد أن اللائحة الخاصة بالمبادرات الثقافية مثلا جاءت تالية لوجود هذه المبادرات وتسارع حِراكها على يد المثقفين والمبدعين، وهكذا اللائحة الخاصة بالفرق الإنشادية وغيرها.

وهذا يدل صراحة على القدرة الثقافية التي يتميز بها المجتمع العماني، والموارد البشرية الإبداعية التي تقود هذا الحِراك الثقافي من ناحية، وإرادة الدولة لتمكين هذه القدرة ومدها بما تحتاجه من تنظيم وإدارة تضمن الحقوق الثقافية للأفراد، وتوجه تلك القدرة نحو تحقيق الأهداف الوطنية. ولهذا فإن التشريعات وخاصة اللوائح التنفيذية منها تشكل أهمية كبرى حتى وإن كانت تالية للفعل الثقافي وهو الأمر الطبيعي لتطور الثقافة، ومع هذا التطور المتسارع الذي يشهده المجتمع، وما يريد تحقيقه في ظل رؤية عمان 2040، وما يمر به من متغيرات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، فإن ذلك كله يدفعنا إلى مراجعة تلك القوانين والتشريعات واللوائح، ويطرح تساؤلا مهما عن مدى حاجتنا إلى قانون شامل للثقافة، ينظم عمل الحركة الثقافية ويبرز التنوع الثقافي في السلطنة.

إن قدرة الدولة على تنظيم الحركة الثقافية وفق السياسات العامة ونمو المجتمع، يجعلها قادرة على تنظيم هذه الحركة وفق رؤية واضحة تمثل (رؤية عمان 2040)، بحيث تكون سياسة ثقافية قائمة على التشاركية المجتمعية وإرادة تطوير الفِعل الثقافي، الأمر الذي يكشف أهمية دراسة وتقييم مدى مواكبة التشريعات واللوائح التنظيمية للعمل الثقافي لتحقيق أهداف هذه الرؤية. والحال أن هذه اللوائح تم إعدادها لتلبية حاجات تنظيمية ثقافية مهمة، استطاعت أن تسهم في تأسيس التنمية الثقافية في عُمان حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، إلا أن هذه الحاجات اليوم تطورت ضمن مفاهيم (التنمية المعرفية) الحديثة، ووفق معطيات تكنولوجية ستقود الثقافة نحو الرقمية، التي بدأت بالفعل في العديد من الدول، حتى أصبحنا نشاهد المسرح الرقمي والعروض الموسيقية الرقمية وغير ذلك، مما يستدعي ضرورة مواكبة تلك التشريعات للمتغيرات الثقافية المتسارعة.

لقد قدمت مؤسسة السياسات الثقافية في المنطقة العربية (المورد الثقافي) بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات، العديد من الدراسات والمسوحات الاستكشافية للسياسات الثقافية في الدول العربية مثل مصر ولبنان وفلسطين وسوريا والجزائر وتونس، من خلال مسوحات استهدفت قياس أهداف السياسة الثقافية المتبعة ومبادئها، ومؤشرات التنوع الثقافي في تلك السياسة، إضافة إلى قياس مؤشرات الحرية الفكرية والإعلام الجماهيري، والنصوص القانونية والتشريعات الخاصة بكل قطاعات الثقافة، والتشريعات المتعلقة بالصناعات الثقافية، وصولا إلى قياس مؤشرات تمويل الثقافة ودعم الإبداع والشراكات المؤسسية والمجتمعية وانعكاساتها في صياغة تلك السياسات وتنفيذها، والمساهمات المجتمعية في الأنشطة والمبادرات الثقافية.

ومن تلك المسوحات المهمة التي قدمتها مؤسسة (المورد الثقافي) ضمن مشروع كراسات في السياسات الثقافية هي (دراسة مقارنة عن بعض جوانب السياسات الثقافية في الجزائر - تونس - المغرب - مصر)؛ والتي درست واقع تلك السياسات من حيث الميزانية الثقافية في كل دولة، واللامركزية في تنفيذ تلك السياسات والتبادل الثقافي. وقد خلُصت هذه الدراسة إلى أن السياسات الثقافية في هذه الدول لا تسهم في تحقيق المردود الاقتصادي، إلا أن المجتمع المدني من خلال التبادل الفني يقدم الدور الكبير في توجيه تلك السياسات. الأمر الذي يعني أن المجتمعات قادرة على صياغة سياسات ثقافية تسهم في استدامة التنمية في هذا القطاع، من خلال دعم مجموعة من المجالات خاصة الفنية منها، بالرغم من ضعف الموازنات وصعوبة تحقيق اللامركزية بسبب التعددية الثقافية.

تُعد هذه الدراسة أنموذجا يكشف قدرة السياسات الثقافية على توجيه الحِراك المجتمعي، ودعم مبادرات الخطط الاستراتيجية من أجل تطوير الصناعات الثقافية والحركة الإبداعية، وتحقيق أهداف القطاع الثقافي بما يخدم التنمية المستدامة. ولهذا فإن مسوحات واقع التنمية الثقافية في المجتمع عامة والسياسات الثقافية بشكل خاص، يؤسس لإعداد الخطط التنموية، فكيف إذا كنَّا نعمل على رؤية لعقدين من الزمان، نطمح بها إلى التحول المعرفي والثقافي وبناء أجيال قادرة على البناء المعرفي والإنتاج الإبداعي.

إن السياسات الثقافية تتطلب دراسة الرؤية الوطنية الطامحة إلى استدامة العمل الثقافي واستثمار الصناعات الإبداعية الثقافية، وبالتالي دراسة واقع التنمية الثقافية المحلية؛ لأن هذا الواقع يؤسس المواءمة بين تلك القوانين والتشريعات والاستراتيجيات الوطنية، وقوانين وتشريعات المنظمات الدولية، وبالتالي المؤشرات الدولية التي تحدد آفاق التنمية الثقافية المستدامة، وتطوير الإنتاج، والتكامل بين القطاعات الثقافية بما يخدم الرؤية الوطنية ويحقق أهدافها.

ولهذا فإن دراسة السياسات الثقافية المتبعة حاليا في السلطنة، وإجراء المسوحات الأساسية على قطاعات الثقافة، كفيل بأن يكشف تلك الجوانب التشريعية التي نحتاجها خاصة في مجال استدامة العمل الثقافي واستثمار الصناعات الثقافية، إضافة إلى تنظيم المهن الثقافية وتصنيفها وتمكينها بما يضمن الحقوق الثقافية وتطوير المنتج الثقافي.

إن التنمية الثقافية في عُمان تسير بوتيرة متسارعة، وعلى السياسات الثقافية أن تسابق هذا التسارع لا أن تلحق به، وأن تكون القوانين والتشريعات واضحة وميسِّرة له. قادرة على بناء التكامل بين قطاعات الثقافة الواسعة، متحررة من المركزية، متجهة نحو مزيد من حرية الرأي والفكر بما يضمن القواعد الأساسية للإبداع والابتكار، لذا فإننا بحاجة إلى مراجعة تلك القوانين واللوائح الناظمة للعمل الثقافي في السلطنة بما يخدم تطلعاتنا المستقبلية، ولعل ذلك كله سيوصلنا إلى قانون شامل للثقافة.

ترتبط الثقافة بالمجتمع وتطوره الحضاري وديناميته الفكرية وقدرته على تطوير الحركة الثقافية وتوجيهها حسب معطيات واقعة ومتغيرات العالم من حوله، ولهذا فإن التنوع الثقافي والتعددية التي يتأسس عليها المجتمع الحضاري تسهم في سرعة تشكل تلك الحركة ونموها بما يُعزز قدرة الأفراد على إبداع وابتكار أنماط جديدة من الأنواع الثقافية، الأمر الذي يحتاج على الدوام مواكبة في التخطيط والإدارة الثقافية، والسياسات الفاعلة.