في حرب أوكرانيا توقعوا ما لا يتوقع
ترجمة أحمد شافعي
تأتي كل حرب بمفاجآت، لكن أشد ما يلفت الانتباه في حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا ـ وعلى الغرب الديمقراطي كله بصفة غير مباشرة ـ هو كثرة المفاجآت السيئة حتى الآن بالنسبة لبوتين وكثرة المفاجآت الطيبة بالنسبة لأوكرانيا وحلفائها حول العالم.
كيف تأتّى ذلك؟ حسن، أنا متأكد أن بوتين في مرحلة التخطيط لهذه الحرب، افترض أنه في غضون ثلاثة أسابيع من بدايتها سيقف ليلقي خطبة النصر من البرلمان الأوكراني مرحبا برجوعه إلى حضن روسيا الأم. ولعله افترض أيضا أن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي سيكون منفيا في موقع حصل عليه من موقع «آير بي إن بي» بولندا، والقوات الروسية ستكون مستمرة في تخليص دباباتها من الزهور التي ألقاها عليها الأوكرانيون ترحيبا بهم، وسوف يتبادل هو والرئيس الصيني شي جينبنج التهاني بعدما أظهرا للناتو وللرئيس الأمريكي «جو النعسان» من الذي سيضع قواعد النظام الدولي في المستقبل.
بدلا من ذلك، لقَّن الأوكرانيون الروس درسا في القتال والموت من أجل الحرية وتقرير المصير. ويبدو بوتين الآن حبيس غرفة العزل الخالية من الجراثيم، ولعله يتخوف من احتمال أن يكون ضابط الجيش الروسي الذي يقترب منه إنما يقترب ليفتح عليه النار. سوف يلقي زيلنسكي خطبة عبر الإنترنت أمام الكونجرس الأمريكي. وبدلا من انتهاء العولمة، يستعمل الأفراد في جميع أنحاء العالم الشبكات المعولمة لمتابعة الحرب والتأثير فيها على أنحاء لم تكن متوقعة بالمرة. فهم بنقرات قليلة يبعثون المال لدعم الأوكرانيين وبمزيد من النقرات القليلة يطالبون الجميع من مكدونالدز إلى جولدمان ساكس بأن ينسحبوا من روسيا إلى أن ينسحب الجنود الروس من أوكرانيا.
وها هي مفاجأة أخرى لم يتوقعها الكثيرون ـ وبخاصة الصين وروسيا. لقد اعتمدت الصين على لقاحاتها لمحاربة كوفيد 19، بالتوازي مع سياسة عدم التسامح والحجر الفوري لمنع انتشار فيروس كورونا. ولكن المؤسف أن اللقاحات الصينية تبدو أقل فعالية من لقاحات كوفيد الأخرى. ولأن استراتيجية الحجر الصينية قللت الإصابات والمناعة الناجمة عنها، فإن الفيروس الآن ينتشر هناك انتشار النار في الهشيم. ومثلما ذكرت نيويورك تايمز يوم الثلاثاء فإن «عشرات الملايين من المقيمين في المقاطعات والمدن الصينية بما فيها بكين وشنغهاي وشينجين يعيشون الحظر وسط تفشي متحور «أوميكرون». وقد منع السفر بين المدن، وتوقفت خطوط الإنتاج وأغلقت المراكز التجارية».
ما أثر ذلك؟ أثره أنه يقتل الطلب على النفط الخام، ويهوي بسعره الذي كان قد وصل إلى 130 دولارا للبرميل بسبب حرب أوكرانيا ثم انخفض إلى ما دون 100 دولار يوم الثلاثاء. وما البلد الذي نعرف أنه في أمس الاحتياج إلى ارتفاع أسعار النفط لأنه لا يملك الكثير سواه ليبيعه للعالم حتى يمول الحرب؟ هذا البلد هو روسيا بوتين. وهكذا، تعوق استراتيجية الصين الفيروسية استراتيجية سعر النفط البوتينية، وقد تضره مثل ضرر أي شيء تفعله الولايات المتحدة. وذلك لأننا لم نزل أشد ارتباطا مما قد نتصور.
الآن وقد عبرنا مرحلة الحرب الافتتاحية، تستمر المفاجآت في التوالي. وأكبرها، بالنسبة لي، هو أقصى أعمال القسوة، والشجاعة، والطيبة التي تظهرها هذه الحرب وتلهم بها.
لم تكن لديّ قط أي أوهام فور أن أطلق بوتين تلك الحرب بأنه قد يمتنع عن القيام بأي شيء يضمن له الحق في الزعم بأنه «المنتصر». ومع ذلك، يذهلني أن أشاهد مدى سرعة توريطه لنفسه في المشاكل. ففي غضون ثلاثة أسابيع، انتقل بوتين من قوله إنه آت لتحرير أوكرانيا من قيادتها «النازية» وإرجاع كييف إلى وطنها الطبيعي مع روسيا إلى سحق مدنها وقصف عشوائي لمدنييها للقضاء على مقاومتهم لإرادته.
كيف لقائد أن ينتقل من قوله في يوم إن أوكرانيا وشعبها جزء لا يتجزأ من روح روسيا ونسيجها ـ باشتراك البلدين والشعبين في اللغات والثقافة والدين ـ إلى تحويل المكان فور رفضه له إلى ركام، ودون أن يقدم تفسيرا للأوكرانيين أو للعالم أو حتى لشعبه هو؟
هذا ضرب من الجنون اللعين الذي نراه من عاشق مرفوض أو قاتل من أجل الشرف. والصادم والمحزن أن نراه متجليا في قائد قوة عظمى تمتلك نحو ستة آلاف رأس نووي. هذا رجل ينذر بمزيد من المفاجآت المشؤومة.
دائما تدهشني الشجاعة التي يبديها الناس العاديون في الحرب، والعاديون في هذه الحالة ليسوا الأوكرانيين وحدهم، وإنما الروس أيضا ممن يأبون القبول بأكاذيب بوتين مدركين أنه يحولهم إلى أمة منبوذة. لذلك أقف في إعجاب أمام الشجاعة المبهرة التي أبدتها مساء الاثنين مارينا أوفسيانيكوفا الموظفة في قناة روسيا الأولى، وهي قناة تليفزيونية حكومية، حين اقتحمت عرضا على الهواء صارخة «كفى حربا»، رافعة لافتة من وراء مقدمة البرنامج مكتوب عليها «إنهم يكذبون عليكم هنا». وقد تم استجوابها ثم الإفراج عنها، ربما لخوف بوتين من تحويلها إلى شهيدة.
وأخيرا تظهر الحرب أيضا أقصى أعمال الطيبة. وفي هذه الحرب، جاء بعض هذه الأفعال عفويا من خلال الاستفادة من منصة بطرق لم يتوقعها أحد، وهذه المنصة هي موقع «آير بي إن بي» لمشاركة الغرف. يقول المسؤولون في موقع «آير بي إن بي» إنهم استيقظوا ذات صباح في مطلع مارس ليكتشفوا أن موقعهم يستعمل بطريقة جديدة تماما، فتحول من موقع لحجز أماكن الإقامة إلى نظام مساعدات أجنبية شعبي محلي الصنع.
خلال الأسبوعين الأخيرين، حسبما قالت الشركة، حجز أشخاص من 165 بلدا أكثر من 430 ألف ليلة في منازل أوكرانية من خلال موقع «آير بي إن بي» دون نية لاستعمال هذه الغرف بل ببساطة بهدف التبرع بالمال لأولئك المضيفين الأوكرانيين وأغلبهم لا يعرفونهم أصلا. تنازل الموقع مؤقتا عن جميع رسوم النزلاء والمضيفين للحجوزات في أوكرانيا، فترجمت هذه الحجوزات إلى سبعة عشر مليون دولارا تذهب مباشرة إلى المضيفين. أغلب الحجوزات قام بها نزلاء من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا. وتقع أستراليا وألمانيا والعديد من البلاد الأوربية في العشرة الأوائل.
إضافة إلى ذلك قام نحو 36 ألف شخص من 160 بلدا، اعتبارا من يوم الأحد، بالتسجيل في Airbnb.org وهي منظمة غير ربحية تابعة لموقع «آير بي إن بي» لاستقبال اللاجئين الهاربين من أوكرانيا في بيوتهم.
كان يستحيل على الوكالة الأمريكية العلاقة للتنمية الدولية أن تحدث مثل هذا التأثير بمثل هذه السرعة.
كثير من المضيفين الأوكرانيين الذين تلقوا هذه التبرعات/الحجوزات كتبوا إلى المتبرعين، لتتكون صداقات جديدة ويتمكن أجانب من فهم أثر هذه الحرب بمزيد من العمق. فلا شيء يرقى إلى التواصل الشخصي مع أشخاص في أوكرانيا يختفون في قبو بيتهم بينما توضح أنت سبب سعادتك إذ تستأجر هذا القبو دون نية في استعماله. فذلك ينشئ مجتمعا طيبا لا يستطيع وحده أن يهزم دبابات بوتين، لكنه قادر أن يساعد في دعم العازمين على مقاومة تلك الدبابات، بتذكيرهم أنهم ليسوا وحدهم، بينما بوتين وحده.
لا أجد في ذلك شيئا مفاجئا. لطالما احتججت بأن العولمة لا تتعلق فقط بالتجارة. بل تتعلق بقدرة البلاد والشركات، وحاليا وبصورة متزايدة الأفراد، على الترابط والعمل عالميا. والبشر مجبولون على الرغبة في الترابط والعالم اليوم ييسر سبلا أرخص لذلك كل يوم.
أما وقد قلت كل ذلك، فإن ما يجعل المفاجآت السعيدة في هذه الحرب مدهشة للغاية هو أنها كانت مفاجآت حتى للمسؤولين عنها. وسيكون هناك المزيد من المفاجآت، ولن يكون جميعا سعيدا.
توماس ل. فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز»
