صورة خاتم النبيين.. في القرآن

09 مايو 2021
09 مايو 2021

خميس بن راشد العدوي -

النبي محمد.. خاتم النبيين؛ بنص القرآن، وعند المسلمين هو الرسول الأعظم بين الرسل الكرام، فبه اكتمل الدين وختمت الرسالة. والواقع.. أن الإسلام هو من الأديان الأكثر تأثيرًا في العالم؛ على مستوى المعرفة الدينية وتداعياتها الاجتماعية والنفسية والسياسية، ولذلك.. توجهت أقلام كثيرة؛ مسلمة وغير مسلمة لدراسة شخصية النبي محمد وتأثيرها في الناس، وهي دراسات في معظمها منفتحة على حقول معرفية عديدة؛ كالتاريخ والروايات والأساطير والاستشراق وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة، بالإضافة إلى القرآن. وقليل منها وقف عند شخصيته بحسب ورودها في القرآن فقط، والوقوف على شخصيته القرآنية مهمة، لذكرها في أصدق وثيقة تكلمت عنه وعن دعوته. المقال.. يرصد أساس تكوين شخصية النبي كما صوّرها القرآن، دون أن يخلط بها صورًا من خارجه.

ملمحان أساسيان في صورة النبي محمد:

الأول: إنه بشر مخلوق لله، وهذا الملمح يأتي في سياق الإطار العام لصورة العالم ككل، وهي صورة تتحرك مشاهدها على محور واحد: طرف يمثّله الخالق، المتفرد وحده بالألوهية، وطرف يمثّله الخَلق، فجميع الكائنات مخلوقة لله، وهذا يعني.. أن من يرسّخ هذه الصورة للعالم يجب أن تشمله، فالأنبياء هم بشر، وأي تصور يخرج بهم عن هذه الرؤية فهو متعارض مع الصورة القرآنية للعالم. وهي صورة لا تقف عند الرؤية النظرية، بل تتحول بقوة تأثيرها لواقع عملي يتفاعل معه الإنسان، وهذا أقوى عرض لمَشاهد الصورة، وهو شأن التصوير البياني في القرآن كله. فمن يرجو لقاء الله؛ فعليه أن يعمل صالحًا؛ فالمقام ليس مقام تمتع نفسي بالصورة، وإنما تحوّل ذلك التأثير النفسي إلى ترجمة عملية. ومع العمل الصالح على الإنسان أن يتجه بعبوديته لله وحده، فلا يشرك معه أحدًا، حتى لو كان النبي الذي جاءت على يده الرسالة الخاتمة، قال الله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

الثاني: أنه رسول لله وخاتم النبيين، وهذا يعني.. أنه كما لا يجوز أن يُرفع إلى مقام الألوهية؛ فكذلك.. لا يجوز أن يُتعدى على رسالته، فهو ذاته أتى بها عن طريق الوحي الإلهي، فلا زيادة عليها أبدًا، وأية علاقة مع محمد النبي لا تقوم على أساس القرابة، فالقرابة.. محلها خارج الرسالة، أما في الرسالة فمحمد ليس أبًا لأحد حتى يأخذ محله في التشريع، قال الله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

فإذا ترسخّت هذه الصورة في الذهن؛ فإن باقي المشاهد بيّنة من خلال العرض البياني الذي يتمتع به القرآن. وأبرز حضور لشخصية النبي الخاتم هو الخُلُق، وتجليه بالرحمة، هكذا سنرى شخص النبي، وهكذا سنرى نظام الإسلام بصورة واضحة لا تشويش فيها: الله خالق الوجود وحده مستأثر بالعبودية، ومحمد بشر، أوحي إليه بالرسالة الخاتمة مكتملة، التي لا زيادة عليها ولا نقصان فيها، هذه الرسالة رحمة للعالمين جميعًا.

يقول الله في «سورة القلم»: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، الخُلُق.. هو المرتكز الأساس الذي رسم به القرآن صورة النبي، وإنك مهما أردت أن تتصور شخصيته فلا يمكنك إلا أن تستحضر خُلُقَه العظيم. والقرآن.. لا ينقل للناس صورة غائبة عنهم كما هو الحال مع الأنبياء السابقين، بحيث يمكن أن ينازعه عليها أصحاب الأديان الذين وجدت لديهم صور مغايرة لأنبيائهم عمّا ذكرها، بل يتكلم عن شخص بينهم، يتحرك من حركتهم، ويتعامل بتعاملهم، ويلابسهم في حياتهم، فلو كان على غير ما يصف القرآن؛ لما وثقوا به، وانفضوا من حوله، وانصرفوا عن دينه. إذًا.. صورة النبي غير متخيّلة، وإنما هي صورة وثائقية له.

وهذه الآية التي توَثِّق الحضور الأخلاقي في النبي تجعل من المشهد حيًا فاعلًا في النفس، فقد جعلته مركبًا من بُعدين:

- البُعد البشري؛ الذي يشترك فيه النبي مع غيره، فهو يتمتع بنعمة الله التي لا يسترها «الجنون»، وله أيضًا أجر غير ممنون جزاء اتباعه نعمة ربه.

- البُعد الأخلاقي؛ وهو المشهد الأعمق من صورة النبي: (وإنك لعلى خُلُق عظيم)، فهذا الإنسان الذي هو كغيره من حيث بشريته، يصوّره المشهد بأنه تجلٍ للحقيقة الأخلاقية، فهو مركّب عليها؛ ولا ينفك عنها، لم يكن مجرد متحلٍ بالصفات الأخلاقية؛ وإنما الأخلاق تشكّل عمقه النفسي الذي ينبثق منه عمله الاجتماعي؛ بما في ذلك تحمله للدعوة إلى الله، يقول الله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

والأكثر من ذلك.. أن هذه الصورة لم تأتِ مجتزأة من سياقها الأخلاقي، فـ«سورة القلم» بأسرها تعالج قضايا أخلاقية، فهي ترسم مشهدًا كليًا لتفكيك أنظمة قديمة، وتبني محلها نظامًا إيمانيًا جديدًا قاعدته الصلبة الأخلاق، ومن الجيد الرجوع للسورة لنرى حياة نابضة بالأخلاق.

يقول الله عن نبيه في «سورة آل عمران»: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، والرحمة -كالخُلُق- من الله، أي أنها ليست مجرد صفة اكتسبها النبي، وإنما هي «من الله». بالرجوع إلى السورة نرى مشهدًا أخّاذًا.. النبي محمد بين أتباعه، وفي لحظة حاسمة من وجودهم الاجتماعي، وهم في صراع مع خصومهم، والأمر يتطلب الحزم والشدة؛ ليس تجاه الأعداء فقط، وإنما أيضًا مع الأتباع؛ لتنصاع له الأمور، يأتي المشهد بعكس ما قد يتصوره المتابع للأحداث؛ يأتي بإبراز الرحمة، وكل ما ينبني عليها من اللطف النافي للفضاضة، واللين المُذهِب للغلظة، والعفو والاستغفار الآسر للوجدان، والمشاورة التي تسدد الرأي وترصّ الصف وتوحّد الكلمة في المواقف العاصفة.

الرحمة.. خُلُق، يصبح ديناً تقوم عليه الرسالة، يقول الله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، صورة بديعة للرسالة الخاتمة.. رسالة النبي مقصورة على الرحمة، فهي ينتفي غرضها إن لم تكن رحمة للعالمين. هذا النبي الموحى إليه بتوحيد الله، والذي يدعو الناس بأن يكونوا مسلمين، إنما هو رحمة للعالمين؛ وليس لأتباعه فحسب. والذي لا يشاهد الرحمة في هذه الرسالة؛ فهو بالأحرى لا يشاهد حقيقة التوحيد، لا يرى الله الذي يتكرر اسمه مقروناً بالرحمن الرحيم، مع مطلع كل سورة من سور القرآن.

تأمل هذا المشهد.. الجامع لخُلُق «النبي الأمي»، الذي يجعل منه ملمحاً من صورة النبوة الكلية، والذي جاءت إرهاصاته في التوراة والإنجيل، فرسالته رسالة الرحمة؛ سواء من حيث الأمر بالمعروف وتحليل الطيبات، أو النهي عن المنكر وتحريم الخبائث، أو فك الأغلال والآصار عن الناس؛ بما فيهم أتباع الأديان السابقة، يقول الله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، هذا المثال.. كافٍ لرؤية شخصية النبي الرحمة ولفهم طبيعة رسالته؛ كما يصوّرها القرآن، دون مزاحمة من أية صورة ترسمها ريشة لم تعاصر النبي، ولم تقف على عمق رسالته، ولم يُذهِب كذلك ببريقها جمودُ المعتقدات وعنعنةُ الروايات. مشهد مبهر من الرسالة الأخلاقية الخاتمة؛ يضحّ نورًا ويثمر فلاحًا.