التقاط صورة العالم نهاية العام

20 ديسمبر 2025
20 ديسمبر 2025

إعادة القراءة استيعاب. التعرف على علامات الزمن وسماته دليل استقراء. نحن ندرك زمننا وعصرنا من خلال ترسيمات علاماته وسماته، فهل يمكننا في نهاية العام أن نلقي نظرة ولو سريعة ومقتضبة على أبرز سمات العام؟ وهل يمكننا استخلاص صورة وإن كانت ضبابية، أو عبارة عن كولاج، من أجل تكوين تصور ما عن الخط الذي مضت به أحداث العام ومحطاته؟ على الأقل في قربها أو بعدها عن المسار المرجعي المفترض، حسب الشعارات المعلنة لهذا العالم وخطابه، ففي تيار الزمن المتسارع لعل هذه هي الوسيلة الأبسط لتحديد المسار والتنبؤ بمستقبله، فهل يمكننا ذلك؟

لعل العلامة السياسية الأبرز في العام المنصرم كانت هي دولة الاحتلال الإسرائيلية وجريمتها العلنية في فلسطين، وما ارتكبته في غزة خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، وما تزال، وما ارتكبته كذلك في لبنان وسوريا، وكأن المنطقة المحيطة بها أصبحت مكشوفة لطائراتها، بل شهدنا، لأول مرة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، الحرب التي شنتها على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بدعوى المفاعلات النووية، وكأن إسرائيل بذلك تحاول أن ترسم ملامح مرحلة جديدة في المنطقة، تكون هي سيدتها المتوجة بالقوة.

في الوقت نفسه أثر هذا النهج الإسرائيلي ليس على المنطقة فحسب بل على العالم بأسره، وجرت للشقاق والانقسامات والتوترات العالمية، سواء بين الدول ومواقفها الرسمية من إسرائيل، أو داخلية بين الشعوب وأنظمتها التي ظلت تدعم إسرائيل؛ فإذا كانت الأزمات عمومًا تكشف المعادن الحقيقية، فإن ما كشفته الجريمة الإسرائيلية المتواصلة، داخل فلسطين وخارجها، هو هذا المعدن الإسرائيلي المتفجر والمفجر، والذي يقوم على توليد عالم مضطرب، متحارب ومنقسم، وهو سعي إسرائيل لتصدير مأزقها الأخلاقي والنفسي، والتغطية عليه، بفائض القوة والسلاح والعنف الهمجي.

في منطقتنا الخليجية التي كما لو سُحبت بالقوة إلى منطقة الصراعات التي كانت تتجنبها طوال تاريخها، فإن قطر كانت هي موقع الحدث الأبرز، عبر العملية التي نفذتها إسرائيل باغتيال وفد حماس المفاوض، وكذلك عبر الضربة الإيرانية التي وجهتها إيران لقاعدة السليل، حيث التقت الأضداد، في حادثة غريبة من نوعها، واتفقت النيران المتضادة على هدف واحد، وهذا في حد ذاته ينذر بضرورة إعادة حسابات استراتيجية كثيرة، وتصحيح مسارات سريع، قصيرة وطويلة المدى، على الصعيد الخليجي بأسره. فواقع الحال أن المحاولات لضمان ضم إسرائيل إلى أي صف كان، بما في ذلك حتى الصف الأمريكي والبريطاني، ظل يفشل على الدوام، لا لشيء إلا لأن إسرائيل بالمحصلة ليست إلا في صف ذاتها، وهذا ما أعادت تأكيده أحداث هذا العام، خاصة خطة ترامب الملفقة للسلام، والتي تعمل إسرائيل اليوم بكل وضوح على الحفر تحتها، وإن بوتيرة أبطأ.

سمة أخرى بارزة من سمات هذا العام كمنت في الذكاء الاصطناعي وما يثيره من أحلام وإغراءات، وما يشاع حوله من أنه فاتحة عصر جديد، وما يتوقع من تحولات يُنتظر أن تكون بحجم التحولات التي جلبها الإنترنت، ولا يدري المرء حتى الساعة ما نسبة الصحة في تلك التكهنات؟ وإن لم تكن مجرد خطط تسويقية لتمويل مشروعات الذكاء الاصطناعي الشرهة للمزيد والمزيد من الاستثمارات والأموال، والتي لم تستطع شركات التقنية الكبرى من تغطية تمويلها رغم تعاظم أرباحها الخيالية.

وهذا أيضًا ما أعاد التيار لمحاولة إغراء دول الخليج لمزيد من الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي، مع وعود أمريكية صريحة بجعل الخليج، خاصة السعودية والإمارات، مراكز مستقبلية لصناعات الذكاء الاصطناعي المرتقبة فتوحاتها خلال العقد أو العقدين القادمين.

ومما قدمه الذكاء الاصطناعي إلى اليوم، عبر نظرة سريعة، يمكننا القول إن كل ما يفعله الذكاء الاصطناعي هو إعادة استثمار مخزون البيانات الهائلة التي خزنتها الشركات من مستخدمي الإنترنت، وإعادة تصديرها في قوالب جديدة للمستخدمين، وإن الحاجة الماسة كما هو واضح ويمكن تبسيطه هو إلى معالجات قادرة على التعامل مع تلك البيانات وإنتاجها في أشكال وصور تناسب رغبات المستخدمين، أو ما يتوقعونه، وإن معظم المجال والحقل الذي يلعب فيه الذكاء الاصطناعي إلى الآن هو هذا حقل إعادة إنتاج، ونسخ ولصق، وبكلمة واحدة «التقليد» الذي أصبح يسمى محاكاة في تلاعب مكشوف بالكلمات.

ولكن مهما يكن من مستقبل هذا الذكاء الاصطناعي، فإن الواقع اليوم هو أنه يستنزف موارد هائلة جدًا، ويتطلب خوادم وسيرفرات ضخمة، وطاقة كهربائية أضخم، وبالتالي تأثيرات بيئية سلبية على المناخ، ونسبة تلوثات أكبر، فإذا لم يفِ الذكاء الاصطناعي بوعوده، وإذا لم ينجح و«بسرعة»، فإن كارثة الخسائر لا يمكن تجنبها، ولعل إلحاح السرعة هذا هو نفسه الذي يجعل نتائج الذكاء الاصطناعي حتى الآن متعثرة بنسبة أخطاء مرتفعة.

سمة أخرى من سمات عالمنا هذا العام كان هذا الحضور العائد بقوة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بمعاركة وخططه، ورمزية حضوره وتأثيره. وهذا النوع من السياسيين يبدو كأنهم يحاولون ترسيخ ملامح عالم تتحكم فيه القوة المطلقة، ذلك لأنهم مدينون لظهورهم وبروزهم بالأساس لغلبة القوة والنفوذ، ونظرتهم للمال محورها قوته وسلطته، ووسط تغلبهم وبروزهم وبتأثيرهم يذهب العالم، رغم المقاومة والتمنع، إلى الجهة العدوانية والعدائية منه، وهذا ما جعل نظرية السوق العالمي والرأسمالية التي تحفظ وتعزز السلم الدولي تنهار، لأن ارتباط وتشابك المصالح عجز عن كبح نشوب النزاعات.

ولعل المثال الأوضح على ذلك هو الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة والمندلعة منذ ٢٠٢٢م، فيما يتكهن الرئيس الأوكراني في خطابه الأخير بعام آخر من هذه الحرب. والواقع أن عالمًا تحكمه غلبة المصالح وتغليبها بالقوة لا ينتج إلا مزيدًا من الصراعات والحروب، ولا حل غير الاحتكام للعدالة والقوانين والمبادئ.

والولايات المتحدة في حد ذاتها هي الدليل الصريح على أن تغليب المصالح لذوي النفوذ يمزق ويعطل المجتمع، وأن تغليب مصالح القوى الكبرى وسعيها لإدامة هيمنتها الدولية يمزق العالم ويعطله.

محصلة كل تلك السمات أبرزت مزيجًا من التوتر والنزاعات والفوضى والمجابهات العسكرية شرقًا وغربا، من كمبوديا وتايلند إلى فلسطين إلى اليمن والسودان، إلى أوكرانيا إلى فنزويلا المهددة بالتدخل الأمريكي، وساسة يرون مصلحتهم في إدامة وإثارة الصراع، لعجزهم عن تحقيق السلم، وسلم ومساع سلمية ضعيفة الأثر سرعان ما تنهار، ومنظمات دولية تستشعر التهديد وتصدّر القلق والعجز كالأمم المتحدة، وسط سخط الأجيال الجديدة التي تعبر عن سخطها بالتخريب في الطرقات والشوارع كما شهدنا في شرق آسيا في النيبال والفلبين، وفي أفريقيا في مدغشقر وكينيا وتنزانيا والمغرب، وتلك سمة حاسمة تستحق التوقف عندها مطولًا، لأنها تتجاوز الحدود الجغرافية؛ فما التحركات الشعبية الضخمة التي جابت شوارع أوروبا وأمريكا لدعم القضية الفلسطينية والاحتجاج على جرائم إسرائيل إلا تعبير مشابه عن فشل الساسة، وانسداد الآفاق الذي تجسده السياسات العالمية الراهنة.

تلك هي بعض سمات عالمنا نهاية هذا العام، فبأي شيء يعدنا العام المقبل؟.

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني