أمريكا تنتحر حضاريا
20 ديسمبر 2025
20 ديسمبر 2025
في وقت سابق من هذا الشهر، قَدَّمَ المتحدث باسم الكرملين دمتري بيسكوف وصفا مقتضبا لاستراتيجية الأمن القومي الجديدة (NSS) التي تنتهجها إدارة ترامب، واصفا إياها بأنها «متسقة إلى حد كبير مع رؤيتنا». وهو محق. فلم تقدم استراتيجية الأمن القومي، ولو حتى على سبيل التلميح، أي انتقاد لروسيا، لا لسياساتها الداخلية المتزايدة الاستبدادية، ولا لعدوانها العسكري الصارخ على أوكرانيا. بل إنها تختص أوروبا ـ صديقة أمريكا وحليفتها الديمقراطية القديمة ـ بقدر استثنائي من الذم والقدح.
صحيح أن إدارة ترامب الأولى، عندما أصدرت استراتيجية الأمن القومي في عام 2017، أطنبت في الحديث عن سيادة الدولة التي تعلو على كل شيء آخر. لكن تلك الوثيقة تعترف رغم ذلك بقيمة حلفاء أمريكا، حيث ذكرت أن «الولايات المتحدة وأوروبا ستعملان معا لصد التخريب والعدوان الروسي». علاوة على ذلك، كان هذا الجهد ينسجم مع استراتيجية أعرض تتمثل في «التنافس بين القوى العظمى»، حيث بدا التهديد من جانب الصين كبيرا. منذ ذلك الحين، شنت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا، وازداد التهديد من جانب الصين بروزا. لكن إدارة ترامب الثانية تُبدي الخضوع لروسيا، وتنتقد الأوروبيين، وتصف التهديد من جانب الصين من الناحية الاقتصادية فقط. ومن الواضح أن منافسة القوى العظمى أفسحت المجال لحسن الرفقة بين القوى العظمى. تقول الولايات المتحدة الآن إنها أكثر اهتماما بـ «الاستقرار»، الذي تفترض أن تحقيقه ممكن بالعمل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ومن خلال «مجموعة الاثنين» (G2) مع الرئيس الصيني شي جين بينج. الرسالة الضمنية هي أن القوى العظمى متماثلة الفِكر. فكل منها يريد مجال نفوذه الخاص ويقدّر القوة قبل المبادئ. كما لاحظ عدد كبير من المعلقين، تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكية خروجا ثوريا عن السياسات والمبادئ التي انتهجتها الولايات المتحدة في الماضي. فهي تتصور العودة إلى التمحور باتجاه نصف الكرة الأرضية الغربي، وتشير إلى أن الأرباح ستأتي قبل المبادئ في كل قضية تقريبا. على سبيل المثال، يُنظر إلى الشرق الأوسط في المقام الأول على أنه مقصد للاستثمار. السياسة معقدة، لكن إبرام الصفقات التجارية أمر سهل.
ويظل التنديد الصاخب بأوروبا بارزا بوضوح، خاصة بسبب العيوب التي تشوب الحجة الأساسية. تدّعي استراتيجية الأمن القومي أن «بعض البلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ستصبح أغلبية سكانها في غضون بضعة عقود من الزمن على الأكثر غير أوروبية»، وأن أوروبا، المحكوم عليها بـ «الانمحاء الحضاري» (لغة يرى كثيرون أنها من صنع نائب الرئيس جيه دي فانس)، من غير الممكن أن تكون حليفا جديرا بالثقة. لكن هذا محض كذب. فلا يوجد بلد أوروبي واحد قد يشكل فيه «غير الأوروبيين» أغلبية في أي وقت في المستقبل المنظور. وهذا يشمل البلد الذي يضم أكبر نسبة من المسلمين: روسيا. يأتي هذا الخطاب البغيض مباشرة من أفواه متطرفين أوروبيين. ومن المذهل ببساطة أن يشكل هذا الخطاب أساس الكيفية التي تتعامل بها أمريكا مع أقوى حلفائها وأقربهم. الآن، لا تتورع إدارة ترامب عن التدخل في سياسات الدول الأوروبية الداخلية لتعزيز قوى «وطنية» ـ أي تلك التي تروج للهراء العنصري ذاته. الواقع أن حتى روسيا لم تكن صريحة إلى هذا الحد بشأن نيتها التدخل في العمليات الديمقراطية الأوروبية.
يتبقى لنا أن نرى ما قد تؤول إليه هذه الحال. إن التحالف مع ترامب ليس بالضبط استراتيجية انتخابية ناجحة، وعلى هذا فقد يتبين إن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة للتدخل في أوروبا غير ناجحة مثلما كانت جهود روسيا. لكنها قد تكون أكثر ضررا، بالنظر إلى مدى توتر العلاقات عبر الأطلسي.
من المؤكد أن الأوروبيين لديهم نصيبهم العادل من المشاكل. فنحن في احتياج ماس إلى إحياء روح المبادرة، والتنافسية، والتجارة العالمية، وتعزيز دفاعاتنا، وتوسيع مشروعنا الناجح للتكامل عبر القارة. وتشكل إدارة الهجرة تحديا ضخما بكل تأكيد، تماما كما هي الحال في الولايات المتحدة. بيد أننا في عموم الأمر مجتمعات ناجحة للغاية، ولا يجوز لنا أن نغفل عن ذلك. فمحاولات الاغتيال والعنف السياسي نادرة للغاية هنا. ليس لدينا جماهير مسيسة تقتحم برلماناتنا. وتظل ديمقراطياتنا مفتوحة ونابضة بالحياة، وتحتل معظمها المراتب الأولى في التصنيفات العالمية لحرية الصحافة. ونسبة سكاننا في السجون خُمس نظيرتها في الولايات المتحدة، وتمثل معدلات جرائم القتل لدينا قسما ضئيلا من نظيراتها في أمريكا. ليس لدينا عجز تجاري ضخم مع بقية العالم. وتوفر أنظمتنا الصحية نتائج أفضل ومتوسطات أعمار أطول مقارنة بأي مكان آخر، وفي مجمل الأمر، تتمتع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بسكان أفضل تعليما. نحن بكل تأكيد لسنا معرضين لخطر «الانقراض»، كما تزعم استراتيجية الأمن القومي بكل سخف. الواقع أن قِـلة من الأماكن على وجه الأرض توفر نوعية حياة أفضل لأكبر حصة من السكان مقارنة بأوروبا. وبدلا من محاولة استرضاء أمريكا ترامب، يتعين علينا أن نقف شامخين، ونجدد التزامنا بقيمنا، ونتمسك بأهداب الأمل في أن يزول قريبا الارتباك الأيديولوجي عبر الأطلسي. وإلا، فلن نكون نحن من ينتحر حضاريا.
كارل بيلدت هو رئيس وزراء ووزير خارجية سابق للسويد.
** خدمة بروجيكت سنديكيت
