من المستفيد من هجوم أستراليا؟
20 ديسمبر 2025
20 ديسمبر 2025
شهدت أستراليا في الأسبوع المنصرم هجومًا مسلحًا على مجموعة من الأشخاص أثناء احتفال ديني يهودي، قُتل فيه العشرات مع حصيلة كبيرة من الجرحى.
بادئ ذي بدء، لا بد أن نقرّ أن هذا هجومٌ إرهابي بكل معنى الكلمة، وقُتل فيه أناسٌ عُزّل بغض النظر عن توجهات بعضهم، ولا يقرّ مثل هذا الفعل دينٌ ولا عرفٌ ولا أخلاقٌ إنسانية، وهو أمرٌ ننكره إنكارا قاطعا وفق ضوابطنا الدينية والإنسانية.
لكن، بجانب استنكارنا، تتبادر كثيرٌ من الأسئلة مثل: من المستفيد من هذه العملية؟ هل يُعقل أن مثل هذه العملية مفيدة للقضية الفلسطينية؟ أو أن تكون الأمة الإسلامية أو العربية مستفيدة؟ بكل تأكيد لا، وعبر الاستدلال المنطقي، نرى أن مثل هذه الأفعال لا تخدم تلك القضايا، ولكن على العكس، تضرّها وتشوّهها وتمنح خصومها ورقة رابحة.
ما يظهر عبر التسويق الإعلامي ما بعد الحادثة، وعبر التوظيف السياسي والديني الذي تلاها، أن المستفيد الأكبر من حدوث هذه الجريمة هو الكيان الإسرائيلي؛ إذ بدا أن هناك من حاول استغلال الحدث ضمن «دراما إعلامية» تربط الهجوم بالإرهاب، ثم تربط الإرهاب بالإسلام والمسلمين بصورة مباشرة كما اعتاد العالم ذلك، ويعيدنا هذا إلى نمط رأيناه في أحداث سابقة مماثلة حاولت أن تستثمر الوقائع لتوجيه الرأي العام وفق سردية «الجاني والضحية»، وعبر محاولة صناعة موجة التعاطف.
وقبل العودة إلى مراجعة بعض تلك الأحداث وارتباطها بأهداف تشويه صورة الإسلام، نذكّر برصد البصمة الصهيونية الحاضرة في كثير من هذه المشاهد، وأقربها ما كُشف عنه عقب مقتل الناشط الأمريكي «تشارلي كريك» في سبتمبر الماضي؛ إذ انتشرت تحليلات واحتمالات إعلامية عن خلفيات مقتله، وتحدثت بعض الأطراف عن تهديدات سابقة ومخاوف عبّر عنها «كريك» شخصيا وأباح بها إلى بعض المقرّبين منه تؤيد فرضية يد الموساد الإسرائيلي في عملية اغتياله.
هذا يشبه ما كشفته الصحافة الإسرائيلية بناء على تحقيقات الشرطة الإسرائيلية وشهود إسرائيليين وبوجود أدلة تثبت مشاركة الجيش الإسرائيلي في قتل مدنيين إسرائيليين عبر قصف جوي للمستوطنات وقصف دبابة لمنزل قُتل من فيه من المدنيين الإسرائيليين في السابع من أكتوبر 2023 الموافق ليوم «طوفان الأقصى»، وأقرّ جيش الكيان الإسرائيلي ببعضها تحت ذرائع «نيران صديقة»، إلا أنها أقرب للقتل المتعمّد سواء تحت ذريعة بروتوكولات «هنيعبل» الذي يسمح بالتضحية برعاياها مقابل بعض المصالح الأكبر، أو لأجل تضخيم مشهد السابع من أكتوبر ولعب دور الضحية، وهذا ما يمكن أن يرتبط أيضا بهجوم أستراليا وحيثياته المخفية.
بحديثنا عن هجوم أستراليا، نلحظ أنه جاء في توقيت حساس تبحث فيه إسرائيل عن إعادة إنتاج التعاطف الدولي بعد تلطّخ صورتها أمام العالم بسبب الإبادة الجماعية في غزة، وما رافقها من اتهامات بالقتل الجماعي والانتهاكات اللا إنسانية، ومع اتساع موجة الاحتجاجات الشعبية في أوروبا وأمريكا وغيرها من دول العالم، والذي دفع بحكومات غربية عديدة بمحاولة تقييد تلك الاحتجاجات أو تقليل أثرها، ولكنها اصطدمت بصلابة الرأي العام وبقوة الإرادة الشعبية التي لم تتراجع.
لهذا، تبرز فرضية قابلية دور «الكيان الصهيوني» المباشر في التحضير لأحداث عنيفة ودموية -مثل هجوم أستراليا- لإعادة صياغة المزاج الدولي وتأجيج الرأي العام وبعثرته، والضغط على الحكومات تحت عناوين مثل «محاربة معاداة السامية»، و»حماية اليهود»، و»منع التحريض»، وصولا إلى خنق التظاهرات، وتقييد أي نقد سياسي لإسرائيل، وصناعة واقع يوحي بأن أي اعتراض عليها سيُفضي بالضرورة إلى عنف ضد اليهود في العالم.
لكن مؤخرا تجري الأحداث بما لا يشتهيه الكيان الصهيوني، وتحديدا تداخل الحدث في أستراليا مع مشهد الرجل المسلم الذي اندفع لمواجهة أحد المسلحين والاستيلاء على سلاحه؛ فساهم في إنقاذ أنفس كثيرة؛ ليربك «الدراما الصهيونية» وروايتها المحضّر لها بعناية التي حاولت أن تربط الحدث بالإرهاب وبالإسلام، وبالتالي تحاول سحب بعض المؤيدين للقضية الفلسطينية إلى صفها.
يعيدنا ذلك إلى مشهد الحادي عشر من سبتمبر القابع في ذاكرة نيويورك والعالم أجمع، وبما حمله من مأساة إنسانية عقب الهجوم على مركز التجارة العالمي الذي أسفر عن مقتل آلاف الأبرياء، ثم جاءت التداعيات السياسية والعسكرية التي أعقبت الهجوم؛ فأعطت الحكومة الأمريكية وحلفاءها الذريعة الواهية لاحتلال بلدان عربية وإسلامية؛ فاحتُلّت العراق ودُمّرت، وكذلك أفغانستان، ورافَق ذلك قتل مئات الآلاف من الأبرياء ونهب للثروات.
ظهرت بعد ذلك مؤشرات إعلامية وسياسية متباينة؛ بعضها حاول أن يستند إلى ما يملكه من أدلة تحمّل جهات استخباراتية حكومية مسؤولية هجوم الحادي عشر من سبتمبر، وكذلك رُبِط بالموساد الإسرائيلي؛ لتتوالى كثيرٌ من التحليلات الأخرى في الانكشاف وطرح التساؤلات المشروعة مثل: من الذي صنع المجموعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش ويدعمها ويموّلها؟ ولماذا يتصادف ولادةُ هذه التنظيمات وتضاعف نشاطها مع أحداث سياسية وعسكرية محددة مثل حرب العراق وما يُطلق عليه بالربيع العربي؟
ومن هنا ظهرت استنتاجاتٌ وإفاداتٌ كثيرة تقول إن بعض هذه الجماعات من المحتمل أن تكون مدعومة استخباراتيا من قِبل دول كبرى لتنفيذ أجندات تخدم مصالحها.
لكن هذه المنظومة الإرهابية لا تعمل كما يتخيّل بعضنا بأن كل أفرادها يعرفون من يقف خلفهم؛ فمن الممكن أن توجد رؤوس تتلبّس بالزي الديني، مُصممةً ومُدرَّبة على قيادة الشبكات، ومهارة تهييج المشاعر، واستقطاب أفراد من المسلمين سواء ممن وقع عليهم ظلمٌ وضيم أو من تشبّع بالأفكار المتطرفة، فتُستغل مشاعرهم ـ بأساليب نفسية خاصة ـ للانزلاق إلى أعمال إرهابية وقتل وترويعٍ تناقض القيم الإسلامية التي ترفض ذلك جملة وتفصيلا، ويتحرك كثيرٌ من هؤلاء بدافع العاطفة أكثر من كونه بدافع «العمالة المقصودة».
ولعلّ الأيام القادمة وأحداثها الساخنة ستكشف لنا عن الذين يقفون في الصف الأول لإصدار التوجيهات وصناعة المسارات، والأقرب اتصالا بالنظم الاستخباراتية التي تدعم أو توظّف هذه المشاهد لتكون مضادةً للمسلمين وتعميق ما يُسمى بالإسلاموفوبيا، وتشكيل مبررات لاحتلال الدول وغزوها.
يدفعنا كل ذلك للبحث عن آليات جديدة لمواجهة هذه الظاهرة المتكررة، وتقوية الإعلام العربي والإسلامي وإضعاف التفوّق الإعلامي الصهيوني؛ بحيث لا يكتفي الإعلام العربي بموضع المحايد أو المغيّب عن المشهد الحقيقي وخفاياه والاكتفاء بردة الفعل المتواضعة، ولكن عليه أن يتحول إلى قوة واعية تساهم في تفكيك مثل هذه السرديات الزائفة، وإبراز الصورة الحقيقية، وتوجيه الرأي العام نحو الوقائع والأدلة بكل جرأة، وكشف أي محاولات لإلصاق الإرهاب بالإسلام أو الارتباطات الدينية بعمومها التي لا تهدف في أصلها إلا إلى رفع رصيد الصهيونية بعد أن تلوّثت صورتها في نظر معظم شعوب العالم.
من هذا المنطلق، أجد أن مسؤوليتنا ومسؤولية الإعلام العربي والإسلامي أن يكون جريئا في البحث والتنقيب عن الحقائق، وصارما في تقديم الأدلة، وتسخير الذكاء الخوارزمي الرقمي ومنصاته لأجل الدفع بالسرديات المضادة للمشروع الصهيوني المستبد وتفنيده.
د. معمر بن علي التوبي / أكاديمي وباحث عُماني
