رفع الغطاء عن صندوقي بندورا عملاقين
ترجمة: أحمد شافعي -
يقول معجم (مريم وبسترز) إن «صندوق البندورا» هو «أي شيء يبدو مظهره عاديا لكنه قد يؤدي إلى نتائج ضارة غير متوقعة». ولقد بت أفكر كثيرا في صناديق البندورا في الآونة الأخيرة، لمَّا بدا لي أننا معشر سلالة الإنسان العاقل نفعل شيئا لم يسبق قط أن فعلناه من قبل: ذلك أننا نرفع الأغطية عن صندوقي بندورا عملاقين في وقت واحد، دونما أدنى تصور عما قد يتطاير من داخلهما.
على أحد الصندوقين لافتة (الذكاء الاصطناعي)، وتتجلى في أمثال (تشات جي بي تي) و(بارد) و(ألفافولد)، التي تشهد جميعا بقدرة البشر على أن يصنعوا للمرة الأولى شيئا صنعا ذا طبيعة «خارقة» تداني الذكاء العام وتتجاوز كثيرا قدرة المخ التي تطورت لدينا بشكل طبيعي.
صندوق البندورا الثاني عليه لافتة (تغير المناخ)، وبه ننقل أنفسنا نحن البشر، وبطريقة ذات طبيعة إلهية للمرة الأولى أيضا، من حقبة مناخية إلى أخرى. فحتى الآن، ظلت القوة إلى حد كبير محكومة بقوى الطبيعة المتعلقة بدوران الأرض حول الشمس.
السؤال الكبير بالنسبة لي ونحن نرفع الغطاءين في آن واحد هو: ما نوع القواعد والأخلاق التي لا بد لنا من إعمالها للتحكم في ما يخرج زاعقا من الصندوقين؟
فلنواجه الأمر، نحن لم نفهم مقدار استعمال شبكات التواصل الاجتماعي لتقويض العمودين التوأمين لأي مجتمع حر ـ أي الحقيقة والثقة. ولو أننا تعاملنا مع الذكاء الاصطناعي التوليدي بمثل تلك اللامبالاة ـ أي لو أننا مرة أخرنا تساهلنا مع مقولة مارك زوكربرج الطائشة في فجر الشبكات الاجتماعية «تحركوا بسرعة وحطموا ما يصادفكم» ـ فإننا يا أعزائي سوف نحطم ما يقابلنا بأسرع، وأعنف، وأعمق مما يمكن أن يتخيل أي منا.
قال لي دوف سيدمان مؤسس ورئيس (معهد هاو للمجتمع) وشركة (إل آر إن) الاستشارية إن «فشلا في الخيال قد وقع عند إطلاق الشبكات الاجتماعية ثم فشلا في الاستجابة المسؤولة لما لم يتسن تخيله من عواقب تلك الشبكات حينما تغلغلت في حياة مليارات البشر... ضيعنا وقتا كثيرا، وضللنا الطريق، عندما انهمكنا في تفكير طوباوي مفاده أن الخير فقط هو ما قد ينجم عن الشبكات الاجتماعية، من الربط بين الناس ومنح الناس منبرا للتعبير عن أنفسهم. ولا نملك رفاهية تحقيق فشل آخر الآن في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي».
ثمة إذن «دافع ملحٌّ» ـ أخلاقيا وتنظيميا ـ لئلا يتم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه إلا لإكمال وترقية ما يجعلنا بشرا متفردين: اي إبداعيتنا وفضولنا وقدرتنا ـ في أفضل الحالات ـ على الأمل، والأخلاقيات، والتعاطف، والوقوف مع الآخرين والتعاون معهم» مثلما قال سيدمان عضو مجلس إدارة (متحف الكوكب) الذي أسسته زوجتي.
«يصدق اليوم أكثر من ذي قبل القول بأن القوة العظيمة تأتي مصحوبة بمسؤولية عظيمة. فنحن لا نملك رفاهية احتمال جيل آخر من المتخصصين في التكنولوجيا الذين يعلنون حيادهم الأخلاقي ويقولون لنا - مرحى، ما نحن إلا منصة - في حين أن تقنيات الذكاء الصناعي هذه تتيح على نحو أُسِّيٍّ أشكالا أقوى وأعمق من التمكين والتفاعل البشري».
من أجل هذه الأسباب، سألت جيمس مانيكا رئيس فريق التكنولوجيا والمجتمع بجوجل، ورئيس إدارة أبحاث جوجل التي تجري القدر الأكبر من أبحاث الذكاء الاصطناعي، عن رأيه في وعود الذكاء الاصطناعي وتحدياته.
قال «علينا أن نتحلى بالجرأة والمسؤولية في الوقت نفسه».
«الداعي إلى الجرأة هو أن الذكاء الاصطناعي قادر في مجالات كثيرة ومختلفة على مساعدة الناس في كثير من مهام الحياة اليومية، والتعامل مع بعض أكبر تحديات الإنسانية، ومنها الرعاية الصحية على سبيل المثال، والتوصل إلى اكتشافات وابتكارات ومكاسب إنتاجية جديدة سوف تؤدي إلى المزيد من الرخاء الاقتصادي».
وأضاف أنه سوف يفعل ذلك «بإتاحته للناس في كل مجال مجموع المعرفة البشرية، بلغتهم، وبطريقة التوصيل المفضلة لديهم، في نص أو صوت أو صورة أو شيفرة» من خلال الهاتف الذكي، أو التليفزيون، أو الإذاعة أو الكتاب، كما سيحصل كثير من الناس على أفضل عون وأفضل الإجابات بما يحسّن من حياتهم.
وأضاف مانيكا قوله إننا لا بد أن نتحلى بالمسؤولية أيضا، مشيرا إلى مخاوف عدة. أولا، هذه الأدوات بحاجة إلى أن تتوافق تمام التوافق مع أهداف الإنسانية. ثانيا، في حال وقوع هذه الأدوات في الأيدي الخطأ، فقد تلحق أضرارا هائلة، سواء أكنا نتحدث عن معلومات مضللة أم فبركات مختلفة تمام الاختلاق (والأشرار دائما هم أول من يتبنى التقنيات الجديدة).
أخيرا أوضح مانيكا أن «الهندسة تسبق العلم بدرجة ما». بمعنى أن من ينشئون هذه النماذج اللغوية الضخمة التي تقوم عليها أمثال «تشات جي بي تي» و«بارد» لا يفهمون تمام الفهم كيف تعمل بكامل قدراتها. فبوسعنا، حسبما قال، أن نهندس أنظمة ذكاء اصطناعي ذات قدرة استثنائية في التعامل مع أمثلة حسابية أو لغة نادرة أو نكات، ثم يمكن أن تبدأ في القيام بأشياء كثيرة أخرى بالاعتماد على تلك الشذرات فقط وبطريقة مدهشة. بمعنى أننا لا نفهم بعد تمام الفهم مدى الأشياء الطيبة والرديئة التي يمكن أن تفعلها هذه الأنظمة.
لذلك نحن بحاجة إلى شيء من التنظيم، ولكنه يجب أن يتم بحرص وبشكل متكرر. فما من قاعدة واحدة تصلح على كل شيء.
لماذا؟ حسن، لو أنكم متخوفون من تقدم الصين على أمريكا في الذكاء الاصطناعي، فسوف ترغبون في دفع عظيم لابتكارنا في الذكاء الاصطناعي، وليس في إبطائه. ولو أنكم تريدون إشاعة الذكاء الاصطناعي فلعلكم ترغبون في أن تكون شيفراته مفتوحة. ولكن فتح الشفرات يعرضها لسوء الاستغلال. فما الذي قد تفعله داعش بتلك الشيفرات؟ عليكم إذن أن تفكروا في التقييد. ولو أنكم متخوفون من أن تضاعف أنظمة الذكاء الاطناعي من التمييز بين البشر، وانتهاك الخصوصية، وغير ذلك من الأضرار الاجتماعية، على طريقة شبكات التواصل الاجتماعي، فأنتم تريدون التنظيم الآن.
لو أنكم تريدون أن تستفيدوا من كل المكاسب الإنتاجية التي ينتظر من الذكاء الاصطناعي توليدها، فأنتم بحاجة إلى التركيز على خلق فرص جديدة وشبكات أمان لجميع المساعدين القانونيين والباحثين والمستشارين التمويليين والمترجمين والعاملين عن بعد ممن يمكن الاستغناء عنهم اليوم، وربما المحامين وواضعي الشيفرات غدا. ولو أنكم تتخوفون من أن يصبح الذكاء الاصطناعي فائق الذكاء فيبدأ في وضع أهداف خاصة لنفسه، بغض النظر عن الضرر البشري، فعليكم أن توقفوه فورا.
والخطر الأخير حقيقي لدرجة أن منداي جوفري هينتن، وهو من مهندسي أنظمة الذكاء الاصطناعي الرائدين، أعلن استقالته من فريق جوجل للذكاء الاصطناعي. قال هينتن إنه رأى أن جوجل يتصرف بمسؤولية في طرح منتجاته القائمة على الذكاء الاصطناعي لكنه أراد أن يكون حرا في أن يعارض جميع مخاطره. وقال لكيد ميتز في التايمز إنه «من الصعب أن نرى كيف يمكن منع الأشرار من استعماله لأغراض شريرة».
إذا ما نظرنا إلى ذلك كله معا لرأينا أننا، أي المجتمع كله، على وشك اتخاذ قرار في صفقة شديدة الضخامة حينما نطرح الذكاء الاصطناعي التوليدي.
والتنظيم الحكومي وحده لن ينجينا. وعندي قاعدة بسيطة: كلما تسارعت وتيرة التغير وازادت القدرات التي ننشئها نحن البشر، ازدادت أهمية كل شيء قديم وبطيء، وازدادت أهمية كل شيء تعلمتموه في مدرسة الأحد الكنسية أو في أي موضع تستلهمون منه أخلاقكم.
لأننا كلما وسَّعنا نطاق الذكاء الاصطناعي، ازددنا احتياجا إلى توسيع القاعدة الذهبية التي تقول: افعل في غيرك ما تحب أن يفعله غير فيك. لأننا في ضوء القوى متزايدة الطبيعة الإلهاية التي نمنحها لأنفسنا، يمكننا جميعا الآن أن نفعل في بعضنا بعضا بصورة أسرع وأرخص وأعمق من ذي قبل.
ومثل ذلك في ما يتعلق بصندوق بندورا المناخي الذي نفتحه. مثلما توضح ناسا في موقعها على الإنترنت «خلال الـ800 ألف سنة الماضية، جرت ثماني دورات عصور جليدية وفترات دفء». انتهى العصر الجليدي الأخير قبل 11700 سنة، وأعقبته حقبتنا المناخية الراهنة المعروفة بالهولوسين (أي الحديثة تماما) التي اتسمت باستقرار الفصول بما أتاح الزراعة المستقرة وإقامة المجتمعات الإنسانية وأخيرا الحضارة مثلما نعرفها اليوم».
تقول ناسا إن «كثيرا من هذه التغيرات المناخية توعز إلى اختلافات بسيطة جدا في مدار الأرض تغير كم الطاقة الشمسية التي يتلقاها كوكبنا».
حسن، وداعا لذلك كله. يجري الآن نقاش محتدم بين علماء البيئة وخبراء الجيولوجيا في الاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية، وهو المنطمة المهنية المسؤولة عن تحديد عصور الأرض الجيولوجية المناخية ـ عما لو أننا معشر البشر قد أخرجنا أنفسنا من الهولوسين إلى حقبة جديدة يطلق عليها الأنثروبوسين.
والكلمة مشتقة من الأنثروبو أي (الإنسان) وسين أي (الجديد)، لأن الإنسانية تسببت في انقراضات جماعية لسلالات نباتية وحيوانية، ولوثت محيطات، وغيرت الغلاف الجوي، ناهيكم عن تأثيرات أخرى أكثر دواما، حسبما أوضحت مقالة في مجلة سميثونيان.
يخشى علماء نظام الأرض أن هذه الحقبة الإنسانية، أي حقبة الأنثروبوسين، لن تحتوي فصول السنة التي كان يمكن توقعها في حقبة الهولوسين، فقد تتحول الزراعة إلى كابوس.
وفي هذا قد يكون في الذكاء الاصطناعي خلاصنا، من خلال تسريع فتوحات العلم المادي، وكثافة البطاريات، والطاقة الاندماجية، والطاقة النووية المعيارية الآمنة التي تيسر للبشر إدارة آثار التغير المناخي التي لا مفر منها الآن واجتناب ما يبدو غير قابل للتخيل.
لكن لو أن الذكاء الاصطناعي يفتح المجال لتخفيف أسوأ آثار التغير المناخي، أي لو أن الذكاء الاصطناعي يمنحنا فرصة، فخير لنا أن ننتهزها بشكل صحيح. أي نشفعها بقواعد ذكية للإسراع بتوسيع نطاق الطاقة النظيفة والقيم المستدامة المتدرجة. وما لم ننشر أخلاقيات الحفظ ـ أي احترام الطبيعة البرية وكل ما توفره لنا مجانا من قبيل الهواء والماء النظيفين ـ فقد ننتهي إلى عالم يشعر الناس فيهم بحقهم في المرور بالغابات المطيرة بسياراتهم الهامر الكهربائية تماما. وهذا ما لن يكون.
الخلاصة: إن صندوقي البندورا العملاقين هذين يجري فتحهما. وليحفظنا الله إذا ما امتلكنا قدرات إلهية تجعلنا قادرين على شق البحر الأحمر وفشلنا في توسيع نطاق الوصايا العشر.
توماس فريدمان كاتب مقال رأي في جريدة نيويورك تايمز حول الشأن الخارجي ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز»
