رأس المال الثقافي والاقتصاد

18 مارس 2024
18 مارس 2024

كثير من نقاشات الاقتصاديين وحواراتهم عند تفسير عمليات الإنتاج في الاقتصاد تركّز على ثلاثة أنواع لرأس المال وهي: رأس المال المادي، ورأس المال البشري، ورأس المال الطبيعي، وتخلو من الإشارة إلى أحد محركات الاقتصاد ومحفّزاته وهو رأس المال الثقافي الذي يعبّر عن الرصيد الذي يمتلكه الشخص من معارف ومهارات وثقافة إضافة إلى الأعمال الفنية ومصنوعات يدوية مثل اللوحات والمنحوتات، والمباني التراثية، والمتاحف الفنية، والأثرية، ما يميّز رأس المال الثقافي أنه ليس وراثيا أو مكتسبا مثل بقية الرأسمال (المادي، والبشري)، بل هو مورد يمنح قوة اجتماعية وثقافية في المجتمع بمكوّن غير ربحي أو مادي ويطلق عليه أحيانا رأس المال الاجتماعي.

وينقسم رأس المال الثقافي إلى نوعين ملموس وغير ملموس؛ فالشبكات والعلاقات الثقافية التي تدعم النشاط البشري، وفي تنوع المظاهر الثقافية داخل المجتمعات تمثّل رأس المال الثقافي غير الملموس، فيما يعرّفه العالم الفرنسي بيير بورديو بأنه «مجموعة العناصر الرمزية مثل المهارات، والأذواق، والحالة المادية، والملابس، والسلوكيات، والممتلكات المادية، والمؤهلات، وما إلى ذلك التي يكتسبها الشخص من خلال الطبقات الاجتماعية والمجتمعات عموما».

ورأس المال عموما هو سلعة تشترك مع سلع أخرى لإنتاج سلع جديدة، ويفسّر عمليات الإنتاج منذ زمن طويل مما يؤدي لإحداث نمو اقتصادي عبر استخدام الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة؛ فمثلا رأس المال الطبيعي يعتمد أساسا على الموارد الطبيعية التي يستخدمها الإنسان لإنتاج سلع يستخدمها في حياته اليومية، بينما عند قيامه بصنع مواد تساعده على إنتاج سلع أخرى في هذه الحالة يسمى رأس المال الصناعي، ويتطور رأس المال الثقافي تزامنا مع التطور التقني والتقدّم التكنولوجي، لذلك هناك بعض الأصول الثقافية أكبر قيمة من غيرها؛ فمثلا المعرفة بالتكنولوجيا مثل تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها في العملية التعليمية في مختلف المراحل تعد أحد نماذج تطوّر رأس المال الثقافي. كذلك استخدام رصيد المعرفة التي يمتلكها الشخص في النقاشات الهادفة والابتعاد عن طرح المعلومات المضللة وغير الدقيقة أو السطحية، إضافة إلى الاطلاع كثيرا بشأن ما يدور حوله.

أيضا يعد أحد نماذج تطوّر رأس المال الثقافي، وباستمرار طرح الأفراد أفكار ابتكارية وجديدة تعالج بعض التحديات الاجتماعية والحياتية عبر استخدام ما يمتلكه من معارف وثقافة؛ فإن ذلك يسهم في تنمية الاقتصاد وتطوير مدخلاته وتجويد مخرجاته مما يسهم في إنتاج سلعة مفيدة للمجتمع، معززة لرأس المال الاقتصادي؛ فالتنشئة الاجتماعية للفرد لها دورٌ فاعل في تكوين رأس المال الثقافي مدعومة بالاستخدام الصحيح للموارد المتاحة لتكوين وإنتاج سلعة ثقافية يستفاد منها في المجتمع، وتكون ذات قيمة مضافة للاقتصاد، عبر استخدام الفرد البنية العقلية التي اكتسبها من عملية التنشئة أو من المصادر الأخرى التي حصل عليها من خلال مؤهلاته التعليمية وفقا للسنوات التي قضاها في التعليم؛ فمثلا يشير الفكر الماركسي حول مفهوم رأس المال بأنه مفهوم اجتماعي؛ لظنه أن رأس المال يتطلب عمليات ونشاطات اجتماعية لإنتاج سلعة تستخدم اجتماعيا، وأن عملية التبادل في جوهرها هي عملية اجتماعية، وبالتالي نستطيع القول بأن رأس المال بمختلف أنواعه هو استثمار الموارد المتاحة سواء ربحية أو غير ربحية لإنتاج سلعة جديدة ذات قيمة مضافة للاقتصاد.

ووفقا لبورديو الذي صاغ مفهوم رأس المال الثقافي، بأن هذا النوع من رأس المال يتمثّل في ثلاثة أنواع، الأول: عملية اكتساب رأس المال الثقافي تعد عملا شخصيا أو تنمية ذاتية، وجهدا يقوم به الفرد أو تكاليف شخصية بغرض تكوين هويته ويطلق على هذا النوع الحالة المادية، ولا يمكن أن يتم نقل هذا النوع للأفراد الآخرين بأي وسيلة، لأن هذا النوع مكتسب وليس وراثيا أو بالفطرة كونه قائما على جهد شخصي ورغبة حقيقية من الفرد نفسه، أما النوع الآخر لرأس المال الثقافي يسمى بالحالة الموضوعية؛ فهو مزيج من رأس المال الاقتصادي ورأس المال الثقافي وذلك لوجود علاقة بين امتلاك الفرد للصور والقواميس والكتب وحالته المادية، وهي الحالة المادية المتجسدة التي تعين الفرد على امتلاك هذا الرصيد من الثقافة، فيما يعرف النوع الثالث بالحالة التنظيمية، وهي التي تثبت حقيقة امتلاك الفرد لرأس المال الثقافي من خلال ما يمتلكه من مؤهلات علمية؛ لتوضّح سمات رأس المال الثقافي الحقيقية التي يمتلكها الفرد.

وما نلاحظه في سلطنة عُمان أن هناك جهودا تقوم بها الجهات الحكومية والأفراد لرفع الوعي بأهمية رأس المال الثقافي رغم عدم الحديث عنه في المجتمع وفي النقاشات المختلفة؛ فمثلا تنظم وزارة الإعلام بالتعاون مع وزارة الثقافة والرياضة والشباب سنويا معرض مسقط الدولي للكتاب، وتثري الجمهور ببرامجها الثقافية المتنوعة التي تبث عبر وسائل الإعلام الرسمية، وكذلك هناك اهتمام وسعي دؤوب من الأشخاص لمواصلة التعليم للحصول على ألقاب علمية معتمدة بقضاء سنوات طويلة في التعليم منذ مرحلة التعليم المبكر حتى مراحل التعليم العليا، إضافة إلى حضور أفراد المجتمع للاستفادة من الأنشطة الثقافية والمشاركة فيها مثل التي تنظمها مؤسسات التعليم العالي والنادي الثقافي.

راشد بن عبدالله الشيذاني باحث ومحلل اقتصادي