تركيا «الأردوغانية».. وسؤال العلمانية والديمقراطية

01 يونيو 2023
01 يونيو 2023

أعادت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا، بما شهدته من منافسة حامية بين الأحزاب، وما حملته نتيجتها بفوز رجب طيب أردوغان بفارق ضئيل على منافسة كمال كليجدار أوغلو (نحو أربع نقاط)، أعادت إلى الواجهة النقاش حول نضج تجربة التحول الديمقراطي في هذا البلد، وما إذا كانت تركيا اليوم، بالنظر إلى شفافية الانتخابات الأخيرة وعدالة نتيجتها، أصبحت في مصاف الدول الديمقراطية، لا ضمن الدول التي في طور التحول إلى الديمقراطية، بالقدر الذي فتحت فيه، هذه الانتخابات، الباب لنقاش أوسع حول العلاقة بين الإسلام والعلمانية؛ علاقة الدولة (وليس الحاكم أو الحزب الحاكم) بالدين، والفرق بين الدين والتدين كعقيدة وهوية وخيار للمجتمع والناس، وبين الدولة كجهاز محايد يرعى مصالح الناس ويدير التنوع والاختلاف، ويكفل ويحمي الحريات العامة والخاصة، بما في ذلك حرية التدين من عدمه.

إذا ما عدنا إلى تاريخ الانتخابات في تركيا، سيبدو للمتابع أنه أمام تجربة عريقة، التشكيك في ديمقراطيتها من قبيل المناكفة والأحقاد «الحضارية» من قبل الغرب المسيحي الذي يرى في تركيا دولة إسلامية تهدد بأسلمة مجتمعاته، ومن قبل العالم العربي المسلم الذي يرى في تركيا دولة علمانية تهدد بعلمنة مجتمعاته وإضعاف بناها المحافظة.

يعرف الأتراك الانتخابات منذ أواخر العهد العثماني، لكنها ترسخت مع قيام تركيا الحديثة على يد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، أي أن الانتخابات ضمن تقاليد الحياة السياسية في تركيا على مدى أكثر من 100 عام، لكن الانتخابات لا تعني، بالضرورة، الديمقراطية، فخلال هذه المدة الزمنية، عرفت تركيا أيضا الفساد الانتخابي وضمان الحزب الواحد أو الحزب الحاكم نتيجة الانتخابات والبقاء في السلطة، فعلى مدى 27 عاما؛ منذ التأسيس وحتى الانتقال إلى النظام الحزبي التعددي عام 1950، كان حزب «الشعب الجمهوري» هو الذي يحظى، دون منافس، بأصوات الناخبين، وبصرف النظر عن رغبات وميول الناخبين، فالخوف من منافسة حزب الأب المؤسس كان وحده كافيا لأن تبدو الانتخابات «بيعة» محسومة النتيجة مسبقا. على القدر ذاته من الفساد الانتخابي، كان حضور وتدخل العسكر في السياسة والحكم علامة بارزة على ضعف مؤسسات الديمقراطية في تركيا، بل أن تدخل الجيش في الحياة السياسية في هذا البلد كان نموذجا يُحتذى به في دول العالم ذات النظم العسكرية المركزية (باكستان وإندونيسيا قبل تنحي سوهارتو عن الحكم عام 1998، ودول عربية عديدة، على سبيل المثال)، وفي تاريخ تركيا المعاصر، 4 انقلابات عسكرية؛ أولها عام 1960 على رئيس الحكومة عدنان مندريس الذي حوكم وأعدم بتهمة محاولة تقويض الأسس العلمانية للدولة، وثانيها عام 1971 بإجبار العسكر حكومة سليمان دميرل على الاستقالة، وثالثها انقلاب عام 1980 والذي كان الأكثر دموية وقمعا للحريات، ورابعها، ما وصف بالانقلاب العسكري الأبيض عام 1997، عندما ضغط قادة الجيش على مجلس الأمن القومي لإصدار قرارات أسقطت حكومة نجم الدين أربكان وحل حزب «الرفاه»، والذريعة ذاتها، محاولة تقويض الأسس العلمانية للدولة. وفي عام 2016 كان هناك محاولة انقلاب عسكري فاشلة على حكم رجب طيب أردوغان، لأن هذا الأخير يحاول أيضا تقويض الأسس العلمانية.

رغم ذلك، لم يرضخ الأتراك لحكم الجيش، فكانت الأحزاب والقوى والنخب السياسية تعاود الاصطفاف خلف خيارات الحكم المدني، وكانت تنجح في تحجيم المؤسسة العسكرية وإعادتها إلى دورها المفترض في حماية الدستور والتراب الوطني كما شاهدنا في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016. لكن الخوف على علمانية الدولة من التراجع بقي الهاجس لدى قوى عسكرية وسياسية ومدنية عديدة، كما هو الهاجس لدى نخب ثقافية وقطاع عريض من المجتمع التركي، ما يجعل من هاجس عودة العسكر إلى التدخل في الحياة السياسية، تحت هذه الذريعة، قلقا مقيما لدى مؤسسة الحكم المدنية كما لدى القوى المدنية الأخرى.

هكذا يصبح الصراع في تركيا، وعلى مستوى أكثر جذرية، بين دعامتي الدولة الحديثة؛ العلمانية والديمقراطية، وهما الدعامتان، كما في تجربة الدولة الحديثة في الغرب وتجارب أخرى في الشرق، اللتان لا تستقيم إحداهما ولا تستقر من دون الأخرى، فما من تجربة ديمقراطية ناجزة اليوم من دون فصل واضح للدين عن الدولة أو من دون تحرير كامل للدين من سيطرة الدولة، وما من تجربة علمانية ناجزة من دون دستور ديمقراطي يضع الحدود واضحة بين سلطات الحكم الثلاث، يكفل ويحمي مواطنة متساوية، حقوقا وواجبات، ويكفل ويحترم الحريات العامة والخاصة، ما فيها حرية العبادة والاعتقاد.

لكن العلمانية التركية كما الديمقراطية فيها تعتريها الكثير من المشكلات، فكلاهما لم تولد وتتطور ضمن ثقافة المجتمع والناس، إنما فُرضت فرضا، ومورس من أجل علمنة الدولة والمجتمع القمع والترهيب، فمصطفى كمال قاد ثورته التحديثية مفتونا بالتجربة الأوروبية، بالحياة والعلاقات أكثر من افتتانه بمبدأ الدولة الديمقراطية التي تكفل وتحترم حريات واختيارات الناس، فأجبر الرجال على خلع الجلباب والعمامة وارتداء اللباس الغربي والطربوش، ومنع النساء من ارتداء الحجاب، واستبدل الحرف العربي في الكتابة بالحرف اللاتيني، ومنع كافة مظاهر التدين بما في ذلك رفع الأذان في المساجد، فكانت علمانية قصرية شكلية، أما الحكم، رغم الصورة الحداثية، الانتخابات والديمقراطية، فقد كان فرديا استبداديا.

إنما وبالقدر الذي تطورت فيه تلك العلمانية الشكلية فوجد، مع تحولات الأجيال، علمانيون أتراك لا يعارضون الدين ولا مظاهر التدين وممارسة العبادة في الحياة العامة، بالقدر ذاته لا يزال هناك علمانيون أتراك من ذوي النزعة القومية الأتاتوركية يرون في الدين شكلا من أشكال الردة عن الحداثة والعودة إلى زمن السلطنة العثمانية، وقد برزت أصوات كثيرة ضمن صفوف المعارضة في الانتخابات الأخيرة. على الوجهة الأخرى، ومنذ الانقلاب على حكومة عدنان مندريس، محاكمته وإعدامه، بدا واضحا صعود تيار سياسي يطالب بعودة تركيا إلى جذورها الثقافية المؤسسة وهي الإسلام، وبمنح الناس الحرية الكاملة في اختيار ما يلبسون بالقدر الذي يمتلكون فيه حق الاعتقاد والإيمان، وهو التيار الذي تزعمه نجم الدين أربكان، وانتمى إليه مبكرا الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان وأسس على أرضيته مشروعه السياسي، ولكن في ظل دستور ينص بوضوح على أن تركيا «جمهورية ديمقراطية علمانية اجتماعية».

لهؤلاء القائلين بنضج التجربة الديمقراطية التركية، لا بد أن نتذكر أن تركيا الحديثة، ليست حديثة عهد بالحكم المركزي، فهي قامت على أنقاض الدولة العثمانية وتراث حكم مركزي فردي مطلق امتد على مدى 6 قرون، رغم ما شهدته المائة عاما الأخيرة من عمر الدولة العثمانية من تطور في نظم ومؤسسات الحكم، أخذا بالتجربة الدستورية في أوروبا، وهو ما عرف بـ«التنظيمات» في عهد السلطان عبد المجيد الأول. في تلك الفترة عرفت أيضا الانتخابات البرلمانية في عام 1877 لكنها لم تستمر وتم حلّ البرلمان حتى عام 1908، رغم ذلك، بقيت مركزية مؤسسة الحكم أو الحزب الحاكم، وصورة الحاكم الأب من تقاليد الثقافة السياسية التركية الحديثة منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك وحتى رجب طيب أردوغان، وهي الصورة والتقاليد التي حاول نحو 48% من الناخبين كسرها بالتصويت لصالح مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو، لكنهم لم يوفقوا. غير أن ما راكمته المعارضة في هذه الانتخابات من حضور ونجاح لافتين، سيشكل، دون شك، حافزا لمعاودة المحاولة بعد 5 سنوات.

منح الناخبون الرئيس رجب طيب أردوغان فترة جديدة ليحكم تركيا لخمس سنوات قادمة، وهو الذي يحكم تركيا منذ عشرين عاما. ومن دون العودة إلى الانتخابات السابقة، فإن الانتخابات الأخيرة هذه تبدو حرة ونزيهة ووفق المعايير الديمقراطية، وهو ما اعترف به خصوم أردوغان بمن فيهم الأوروبيون، إنما لا توجد دولة ديمقراطية يحكمها رجل واحد لربع قرن، بصرف النظر عن إنجازاته وعما يتم التذرع به من ظروف وتحديات داخلية وخارجية، فالانتخابات، مرة أخرى، لا تعني بالضرورة، الديمقراطية.