ترامب ينتهك القوانين- ما الذي حَلَّ بالكوابح والتوازنات؟
تصدَّر عناوينَ الأخبار في الأسبوع الماضي إعلان ترامب عن الإجراءات الجديدة الخاصة بإصدار تأشيرات «اتش- بي 1» بما في ذلك أنها في معظمها ستتطلب الآن سداد رسم بمبلغ 100 ألف دولار. لكن قليلين أولئك الذين أشاروا إلى أن الرئيس كالعادة تلاعب بالقواعد الإجرائية والتي تستوجب في هذه الحالة فترة إخطار مُسبق لإبداء الملاحظات مع تسبيب القرار بمقتضيات الأمن القومي. (اتش بي 1 تأشيرة مؤقتة تتيح العمل لأصحاب المؤهلات أو الخبرات المتخصصة برعاية جهة عمل أمريكية – المترجم.)
ظل هذا النمط من التصرفات يُتَّبع منذ تنصيب الرئيس دونالد ترامب. فمن بين قراراته المبكرة فصلُ أكثر من عشرة مفتشين عامين مع تجاهل القانون التي يتطلب ذكر أسباب محددة لكل حالة ومنح إشعار بذلك لمدة 30 يوما.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية تتجاهل القانون وتنتهكه عن قصد لتقويض الكوابح المفروضة على سلطتها التنفيذية. (نظام الكوابح والتوازنات هو الآلية أو القواعد والإجراءات الدستورية والقانونية التي يتم بها تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام الديمقراطي الأمريكي – المترجم). مثلا، كان في مقدور الإدارة دفع الكونجرس لإجازة تشريع برفع الرسوم الجمركية إلى أي مستوى يريده ترامب. فالأغلبيتان الجمهوريتان (في مجلسي النواب والشيوخ) لم ترفضا له عمليا أي شيء.
وعلى نحو مماثل، كان يمكن لإدارة ترامب أن تطلب من الكونجرس إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لأن العون الأجنبي نادرا ما حظي بترحيب شعبي. لكن ترامب بدلا من ذلك اختار إصدار أوامر تنفيذية أحادية.
ترفض الإدارة الأمريكية عمدا العمل وفقا للقوانين وبطرائق تبدو لمعظم المراقبين أشبه باغتصاب السلطة وتكديس النفوذ. ويشعر البعض بقلق عميق تجاه ذلك فيما لا يكترث به آخرون. لكن السؤال الذي أريد أن أطرحه هو: لماذا اتضح أن نظام الكوابح أو الضوابط والتوازنات الذي تُباهِي به أمريكا بمثل هذا الضعف؟
عندما تنظر إلى الديمقراطيات الغربية اليوم ستجد أن الولايات المتحدة مختلفة عنها. فوسط الصعود واسع النطاق للشعبوية وعدم الرضا من مختلف المؤسسات والخطاب السياسي الغاضب يبدو أن الولايات المتحدة توغلت أبعد من أي بلد آخر في درب «الديمقراطية اللا- ليبرالية» حيث يتم بانتظام تقويض سيادة الدستور وحكم القانون.
المجر مثال آخر واضح لذلك. لكن المجر ديمقراطية يافعة وهشة جدا. كما شوَّهتها عقودٌ من الشيوعية. أما الولايات المتحدة فهي أقدم ديمقراطية دستورية في العالم. مع ذلك، ذكر «معهد أنواع الديمقراطية» السويدي والذي يقيس وضع الديمقراطيات في العالم أن تآكل الديمقراطية الأمريكية «غير مسبوق» في حجمه.
في فترة سابقة كان من الممكن لأي عمل من الأعمال التي تقوم بها الإدارة الأمريكية الحالية أن يثير استهجانا واسعا. لكننا اليوم نشهد بشكل روتيني تهديداتٍ إجرائية وقضايا قانونية ضد شركات الإعلام وتهديدات بحرمان الشركات القانونية من العقود الحكومية أو الدخول إلى المباني الفيدرالية واستخدام وزارة العدل لاستهداف الخصوم السياسيين وتكليف القوات المسلحة بمهام داخل الولايات المتحدة.
يمتدح البعض هذه التحركات باعتبارها ممارسات للسلطة التنفيذية. لكن ليس هنالك خلاف تقريبا بأن هذه التصرفات غير مسبوقة من حيث نطاقها وعددها طوال نصف قرن منذ فضيحة ووترجيت.
للمفارقة، جزء من المشكلة ناشئ عن طول عمر الدستور والذي من نواحي عديدة ظل عملا ناجحا لأمد مديد.
يعود الإطار السياسي للولايات المتحدة ليس فقط إلى عام 1776 (عام استقلال أمريكا من بريطانيا) أو 1789 (بداية العمل بالدستور الأمريكي) ولكن إلى هياكل الحكم التي وضعها المستوطنون الأوائل في المستعمرات الإنجليزية هناك.
هذا النظام كان حديثا في عصره. لكن ذلك قبل 300 عاما. واليوم، كمثال واحد بارز، لدى الأنظمة الديمقراطية الغربية وزارات للعدل ومفوضيات انتخابية مستقلة عن الحكومات المنتخبة. لكن في الولايات المتحدة ممارسو الادعاء العام ليسوا معصومين بشكل موثوق (وأيضا مفوضيات الانتخابات) عن السياسة والساسة المنتخبين.
منذ حادثة ووترجيت نشأت معايير معينة حول عدم تغوّل الجهاز التنفيذي. لكنها مجرد معايير كما أظهر ترامب ذلك بانتهاكها دون محاسبة.
على نحو مماثل لدى الديمقراطيات الأخرى المزيد من الوسائل الأكثر حيادا لاختيار القضاة وفتراتٍ محددة لعملهم خلافا للآليات الحزبية الأمريكية الخاصة بتعيين القضاة الفيدراليين والذين يشغلون مناصبهم مدى الحياة.
تعلَّمت بلدانٌ أخرى أساسياتِ العديد من أنظمة كوابحها وتوازناتها (مثل المحكمة الدستورية التي لديها السلطة النهائية لمراجعة القوانين) من الولايات المتحدة. لكنها شذبتها عند تشريعها.
ذكر لي ستيفن ليفيتسكي أحد الدراسين البارزين لانهيار الأنظمة الديمقراطية والذي ألَّف بالاشتراك مع دانيال زبلات كتاب «عندما تموت الديمقراطيات» أن أهم سبب لتآكل المؤسسات ربما نجاحُها على مر السنين بحيث لم تر الولايات المتحدة أبدا حاجة للتغيير.
من البديهيات في عالم الأعمال والحياة عموما أن المرء نادرا ما يتعلم من النجاح ولكن فقط من الفشل. لقد كسبت أمريكا الحرب الباردة وكانت الرائدة في ثورة المعلومات ولا تزال في صدارة العالم بمقاييس مهمة وعديدة. لذلك نحن (في الولايات المتحدة) لا نرى حاجة لفحص نظامنا والنظر في عيوبه وتحسينه. يقول ليفيتسكي «الاستثنائية الأمريكية أعمَتْنَا عن رؤية مكامن الضعف في نظامنا الدستوري والسياسي.»
إلى جانب انعدام مراجعة الذات، اعتبر ليفيتسكي إخفاق القيادة عاملا حاسما في أهميته. يقول «ليست لدينا ذكريات عن انهيارٍ ديمقراطي أو تجربةِ حكمٍ سلطوي. ففي بلدان مثل بولندا والبرازيل تعرف عدة أجيال ما الذي يعنيه فقدان حكم القانون والضمانات الدستورية.
لكن كما يبدو لا يعتقد الزعماء الجمهوريون وقادة الأعمال وقضاة المحكمة العليا أننا في الواقع نشهد تآكل الديمقراطية بل حتى موتها. فهذه هي أمريكا. ونحن كما يبدو أيضا «مختلفون» في نظرهم.
هذا الفقر في الخيال يُوجِد حالةَ «رِضَا عن الذات» قد تكون قاتلة.
فريد زكريا كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشئون الخارجية على شبكة سي إن ان
عن واشنطن بوست
