تايوان في قلب الصراع الأمريكي ـ الصيني
05 نوفمبر 2025
ترجمة: نهى مصطفى
05 نوفمبر 2025
مارفن بارك -ديفيد ساكس -
لم يخفِ القادة الصينيون رغبتهم في فرض سيطرتهم على تايوان، بالقوة إن لزم الأمر، وهم يذكرون محاوريهم الأمريكيين باستمرار بأن الجزيرة لا تزال القضية الأكثر حساسية وأهمية في العلاقات الأمريكية الصينية. لكن أي تعديل ـ ولو طفيفًا ـ- في السياسة الأمريكية باتجاه موقف بكين قد يزعزع استقرار المنطقة؛ فتايوان القوية والواثقة والمدعومة أمريكيًا تظل عنصرًا أساسيًا في الحفاظ على السلام الإقليمي؛ لذلك، ينبغي على ترامب أن يوظف نفوذ بلاده لردع التعديات الصينية وإعادة ترسيخ القواعد التي أثبتت فعاليتها في مضيق تايوان.
ترتكز مطالب بكين من الولايات المتحدة بشأن تايوان على الادعاء بأن تايوان وواشنطن ـ لا الصين ـ هما مصدر عدم الاستقرار الإقليمي. غير أن الواقع يثبت العكس تمامًا؛ فالتوترات الراهنة نتجت عن السلوك الصيني العدواني المتزايد، عسكريًا وسياسيًا على حد سواء. فقد شرعت بكين في توسع عسكري غير مسبوق في وقت السلم، هدفه الواضح هو امتلاك القدرة على السيطرة على تايوان بالقوة. كثّفت تدريباتها العسكرية وعمليات الإنزال البرمائية، ووسعت ترسانتها النووية بوتيرة متسارعة، وسعت في الوقت نفسه إلى عزل تايوان دوليًا والتدخل في شؤونها الداخلية.
وتزعم بكين أن خطواتها جاءت ردًا على الانتخابات التايوانية عام 2016 التي أوصلت إلى الحكم تساي إنغ ون، من الحزب الديمقراطي التقدمي المعروف بتشدده تجاه الصين. لكن الحقيقة أن التصعيد الصيني سبق تولّيها المنصب. فقد اتبع سلفها، ما يينج جيو من حزب الكومينتانج، نهجًا تصالحيًا تجاه بكين، وعمل على توثيق العلاقات عبر المضيق، ووقع معها نحو عشرين اتفاقية تتعلق بالتجارة والسياحة وغيرها. ومع ذلك، وعلى الرغم من مواقف ما الودية إزاء بكين وذلك التقارب التاريخي، واصلت الصين توسيع ترسانتها من الصواريخ الباليستية وأسطول مقاتلاتها المتمركزة في نطاق تايوان خلال فترة ولايته. في المقابل، ظل الإنفاق الدفاعي لتايوان راكدًا، بل شهد تراجعًا في معظم سنوات حكمه. وهكذا، حين وصلت تساي إلى السلطة، كان الإنفاق العسكري الصيني قد تجاوز نظيره التايواني بأكثر من أربعة عشر ضعفًا.
سعت تساي في البداية إلى تهدئة التوترات مع الصين، لكن بكين رفضت مبادراتها وزادت من ضغوطها بدلًا من ذلك. وفقد ما يُعرف بـ«توافق عام 1992» شعبيته في تايوان، وهو التفاهم الذي وضع أساس العلاقات عبر المضيق من خلال الإقرار بوجود «صين واحدة» مع السماح بتفسيرات متعددة لهذا المفهوم. ومع ذلك، أكدت تساي في خطاب تنصيبها احترامها لـ«الحقيقة التاريخية» لتفاهمات 1992، وقدمت صيغة مبتكرة تمثل إطارًا لـ«صين واحدة» يمكن أن يرضي ـ نظريًا ـ الحد الأدنى من مطالب بكين دون أن ينفّر الشعب التايواني. لكن القادة الصينيين رفضوا هذا الطرح، وفوتوا فرصة لتحسين العلاقات عبر المضيق، وألقوا باللوم على تساي متهمين إياها بعدم بذل جهد كافٍ.
منذ عام 2022، وبعد الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتي اعتبرتها بكين استفزازًا، بدأت الصين بانتهاك العديد من الأعراف الراسخة في مضيق تايوان. فقد كثفت من تحليق طائراتها العسكرية والطائرات المسيرة عبر خط الوسط الذي احترمه الجانبان لعقود، ونشرت سفنًا حربية وسفن خفر سواحل حول الجزيرة. كما أخذت تتحدى حدود المنطقة المتاخمة لتايوان، التي تمتد لمسافة 24 ميلًا بحريًا حولها، وتهدد بانتهاك مياهها الإقليمية البالغ عرضها 12 ميلًا بحريًا.
ولم تقتصر ضغوط الصين على الجانب العسكري؛ إذ لجأت أيضًا إلى وسائل اقتصادية ودبلوماسي. فقد ضغطت على الدول القليلة التي لا تزال تحتفظ بعلاقات رسمية مع تايبيه للاعتراف ببكين بدلًا منها، وفرضت عقوبات على الصادرات التايوانية، وشنت هجمات إلكترونية استهدفت البنية التحتية في تايوان.
وفي خضم حملة الضغط المتصاعدة من جانب بكين، ازداد غضب المواطنين التايوانيين تجاه الصين. وعندما اختار الناخبون في تايوان لاي تشينج تي، نائب الرئيس السابق تساي إنج ون، رئيسًا في يناير 2024، سارعت بكين إلى إعلان رفضها التعامل معه، واصفةً إياه بأنه «انفصالي خطير» يسعى إلى تدمير السلام عبر المضيق.
ورغم أن لاي اتخذ مواقف أكثر تشددًا من تساي تجاه الصين ـ إذ وصفها مثلًا بأنها «قوة أجنبية معادية»ـ فإن الرفض الصيني المسبق له ألغى أي حافز لديه لاعتماد نهج أكثر مرونة أو انفتاحًا.
وقد تطرح الصين مجموعة من المطالب تهدف إلى إعادة تشكيل السياسة الأمريكية تجاه تايوان، وقد تشمل هذه المطالب معارضة استقلال تايوان علنًا، والامتناع عن دعم مشاركتها في المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، أو حتى تقييد مبيعات الأسلحة إليها. غير أن الاستجابة لهذه المطالب ستصب في مصلحة بكين وتضر بالمصالح الأمريكية. فالموقف الأمريكي التقليدي تجاه تايوان ـ المستند إلى قانون العلاقات التايوانية لعام 1979، يقوم على قاعدة واضحة: واشنطن لا تؤيد استقلال تايوان، لكنها أيضًا لا تتخذ موقفًا من وضعها القانوني.
وإذا انحرف ترامب عن هذا الحياد الحذر وأعلن معارضته لاستقلال تايوان، فسيقلب التوازن الدقيق الذي حافظ على السلام في المضيق لعقود. وستحاول الصين استغلال هذا التحول لتصويره على أنه سحب للثقة من الرئيس لاي، مؤكدةً أن تايوان لا يمكنها الاعتماد على الولايات المتحدة، بل عليها السعي إلى «صفقة أفضل» مع بكين. والنتيجة ستكون زيادة الضغط على تايبيه لتقديم تنازلات، بدلًا من إلزام بكين بكبح عدوانها المتصاعد. وهكذا، ستجد تايوان نفسها في موقف حرج، فيما تشجع مثل هذه الخطوة الصين على المضي قدمًا في سياساتها العدوانية.
أي تراجع عن دعم مشاركة تايوان في المحافل الدولية سيعدّ انقلابًا على سياسة أمريكية مستقرة منذ تسعينيات القرن الماضي، وسيزيد من عزل الجزيرة جيوسياسيًا. فمنذ مراجعة بيل كلينتون عام 1994، دعمت واشنطن انخراط تايوان في المنظمات الدولية، وشاركت الأخيرة فعليًا خلال رئاسة ما يينغ جيو في هيئات مثل منظمة الصحة العالمية والطيران المدني الدولي. أما مطالبة الصين اليوم بوقف هذا الدعم، فتهدف إلى عزل الرئيس لاي والضغط عليه سياسيًا.
خفض التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وتايوان سيضعف قدرة الجزيرة على ردع أي حصار أو غزو صيني محتمل، إذ تعتمد تايوان كليًا على الدعم الأمريكي في تسليحها وتدريب جيشها. فواشنطن، التي وافقت على صفقات سلاح تفوق 65 مليار دولار خلال العقود الماضية، تمثل الضامن الأساسي لأمن تايوان. واستمرار هذا التعاون ضروري لردع بكين ومنح التايوانيين الثقة في قدرتهم على مواجهة التهديدات الصينية.
لكن تصرفات ترامب خلال السنة الأولى من ولايته الثانية أثارت قلقًا متزايدًا في تايبيه بشأن مدى استمرارية الدعم الأمريكي. فأي تنازلات إضافية لبكين ستعمق شكوك التايوانيين في جدوى الاستثمار في الردع والاستعداد للأزمات، وهي ما تصفه قيادتهم بـ»مرونة المجتمع بأكمله». كما أن هذا النهج سيقوّض ثقة حلفاء واشنطن وشركائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بمصداقيتها، وقد يدفع دولًا أخرى إلى التردد في توثيق علاقاتها مع تايبيه، مانحًا الصين فرصة إضافية لعزل تايوان وتقليص تعاونها الإقليمي.
يمكن للولايات المتحدة والصين التوصل إلى اتفاق يخفف التوتر في مضيق تايوان دون التخلي عن الجزيرة، عبر خطوات تدريجية تعيد الوضع إلى ما قبل أزمة زيارة بيلوسي عام 2022.على واشنطن أن تدفع بكين لسحب قواتها وسفنها من محيط تايوان وتقليص تدريباتها العسكرية، مقابل تخفيضات أمريكية متبادلة في الوجود العسكري الإقليمي. كما يمكن بدء المفاوضات بالتركيز على تقليص القدرات الهجومية؛ فالصين تسحب صواريخها الموجهة نحو تايوان وتحد من اقتراب قواتها من الجزيرة، في حين تسحب واشنطن أنظمتها الصاروخية البعيدة المدى من محيط الصين وتعيد توجيه تدريباتها نحو مهام دفاعية بحتة. من شأن هذه الترتيبات أن تقلل احتمالات التصعيد وتعيد قدرًا من الاستقرار إلى المضيق.
ويمكن للولايات المتحدة أيضًا أن تقترح إنشاء منطقة عازلة فعلية حول تايوان، لتقليل مخاطر الحوادث التي قد تتطور إلى صراع واسع. فمثل هذه المنطقة ستُعيد العمل بمؤشرات الإنذار المبكر التي تسهل على كل من بكين وواشنطن إرسال الإشارات الاستراتيجية وقراءتها بدقة، بما يسمح لهما بالتمييز بين التدريبات الروتينية والتحركات التصعيدية. وطالما أن الولايات المتحدة تحتفظ بقوات كافية في المنطقة لإظهار استعدادها لفرض الحدود، فإن إقامة المنطقة العازلة لن تقوض قدرتها وقدرة تايوان على ردع الصين بصورة مشتركة. وربما تكون بكين منفتحة على هذا الترتيب، إذ يبدو أن شي جين بينج لا يثق تمامًا بجيش التحرير الشعبي أو بقدرته على السيطرة على تايوان في المدى القريب.
ينبغي على القادة في الولايات المتحدة والصين أن يسعوا أيضًا إلى ضبط النفس المتبادل في الطريقة التي يتحدثون بها عن الوضع القانوني لتايوان. في السنوات الأخيرة، كثّفت الحكومة الصينية جهودها لفرض تفسيرٍ بديل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758، الصادر عام 1971، والذي نقل مقعد الصين في الأمم المتحدة من تايبيه إلى بكين. وتدعي الصين أن القرار 2758 ينص على أن تايوان جزء من جمهورية الصين الشعبية، وهو ادعاء يرفضه علماء القانون الغربيون على نطاق واسع، مما يثير مخاوف من أن بكين تسعى إلى ترسيخ الأساس القانوني لمهاجمة تايوان مستقبلًا. في المقابل، ترى بكين في رد الولايات المتحدة على موقفها من القرار 2758 محاولة لتكريس انفصال تايوان الدائم عن البر الرئيسي. لذلك، على الجانبين السعي إلى نوعٍ من «وقف إطلاق النار الكلامي»، يمتنع فيه كل طرف عن مناقشة الوضع القانوني لتايوان، كما كان الحال إلى حد كبير طوال العقود الماضية.
وعلى الرغم من محدودية هذه الخطوات، فإن أي تقدم تدريجي في مضيق تايوان سيعد إنجازًا كبيرًا. فبدلًا من الاكتفاء بردود الأفعال على مقترحات بكين، يمكن لواشنطن أن تبادر إلى تحديد أجندة خاصة بتايوان تسعى من خلالها إلى تحقيق الاستقرار في المضيق، الذي لا يزال الساحة الأكثر ترجيحًا لاندلاع حربٍ بين القوتين النوويتين. وإذا رفضت الصين المقترحات الأمريكية، فسيكشف ذلك بوضوح عن نواياها، ويُرسل في الوقت نفسه إشارة مهمة إلى دول المنطقة مفادها أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع في مضيق تايوان، بل تلتزم قولًا وفعلًا بمنع اندلاعه.
