امتحان خطاب الكونـية

08 نوفمبر 2023
08 نوفمبر 2023

لم يكن خطاب الكونية موضع امتحان عسير -منذ ابتداء القول به مع نشأة العولمة- مثلما هو عليه أمره اليوم. كان الخطاب هذا -محمولا على صهوة الليبرالية الجديدة- يسوغ لنفسه ولفكرته «الكونية» بالعولمة؛ فهي المصداق لما يزعمه من ولوج البشرية عهد «ما بعد الأمم» والدول والحدود والسيادات، حيث السبيل مفتوحة إلى «مجتمع كوني» جامع وشامل. وهل من قرينة على ذلك أكثر من العولمة الذاهبة بتلك الحدود والسدود إلى الزوال، والنازلة بأحكامها الإلحاقية «التوحيدية» على المجتمعات والدول كافة، ثم هل من دليل على تجسد «الكونية» في العالم الإنساني يفـقع به منطق كل المكذبين أفضل من العولمة؟ ما كان موضع استغراب، إذن، أن يقترن تضخم خطاب «الكونية» بفتوحات العولمة وانتصاراتها المتلاحقة، خلال طبعة نيوليبرالية منها سادت بين مطالع العقد الأخير من القرن الماضي وخواتيم العقد الأول من هذا القرن. نعم، ما كان في ذلك ما يبعث على الغرابة وإن كان كثيره يبعث على الاسترابة.

إلى عهد قريب-إذن- درج على كلام ظفراوي انتشائي على كونية آتية لا ريب فيها، تقتلع من طريقها بقايا مقاومات يائسة تطلقها الدول والأمم كمثل حشرجات تتسلق أجساما (= قوميات) مؤذنة بخاتمتها! ثم ما لبث حبل كذبة «الكونية» القصير أن بـدأ يتقطع، منذ عقد ويزيد، حيث شرعت العولمة في إبدال مراكزها والانتقال بدينامياتها من طور إلى طور آخر تتغير فيه معادلاتها بتغير مراكز قواها. كان من آثار ذلك ومن تبعاته، مثلا، أن الدول التي كانت عرضة لتأثيرات العولمة سلبا على اقتصاداتها وسياداتها الوطنية - مثل الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا...- لم تعد هوامش تتعرض لما كانت تتعرض له من ضروب الأذى على اقتصاداتها وسياداتها، ولم تنتقل من تخوم إلى مجرد مراكز جديدة مشاركة في صناعة العولمة وإنتاج حقائقها، فقط، بل باتت هي مراكز العولمة اليوم بعد أن كانت من أطرافها وهوامشها أمس. في المقابل، فقدت المراكز العولمية القديمة (الولايات المتحدة، أوروبا، اليابان) امتياز السيطرة على نظام العولمة شيئا فشيئا، وتراجعت حصتها المادية والابتكارية منها.

وما كان هذا التبدل الهائل في جغرافيا العولمة وقواها ومراكزها وتوازناتها ليمر من غير أن يترك آثاره العميقة على القوى العولمية الغربية الكبرى، وعلى خطاب «الكونية» الذي اخترعته أجهزتها الإيديولوجية. ولعل أظهر تلك الآثار جميعا ما نلحظه -منذ سنوات عدة- من ميل متزايد في السياسات الأمريكية والأوروبية نحو الانسحاب من الأطر العابرة للحدود، التي ولدتها العولمة، والانكفاء التدريجي إلى الداخل القومي في شكل من النكوص والارتداد مثير. وقفنا على وجوه من ذلك الانكماش في تصويت شعوب أوروبية ضد مشروع الدستور الأوروبي الموحد، تعبيرا منها عن رفضها عولمة تقترح عليها إنهاء السيادات القومية والانتظام داخل كيانية سياسية واحدة تصهر الأمم جميعها في بنية واحدة. ووقفنا على مثال ثان له بمناسبة التصويت الشعبي البريطاني لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والعودة إلى السيادة الاقتصادية. ثم وقفنا على أعلى تجلياته في مسارعة الولايات المتحدة الأمريكية -مع إدارة دونالد ترامب- إلى الانسحاب من عدد هائل من المعاهدات والاتفاقات الدولية والمنظمات من باب رد فعلها على انقلاب نتائج العولمة على مصالحها القومية، المصالح عينها التي اقتضت، فيما مضى، عولمة يتعاظم بها شأنها.

في كل هذه الأمثلة السابقة، ضربت فكرة الكونية في مقـتل وتبينت للقائلين بها حدودها المتواضعة، بل هي بدت مصيدة لا أفقا لمراكز غربية اندفعت نحو نظام العولمة اندفاعات هوجاء وغير محسوبة. لقد اكتشفت هذه المراكز متأخرة -والولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص- أن «الكونية» (العولمة) نفسها موضوع نزاع بين القوى والأقطاب (الدول والقوميات) الكبرى في العالم، وليست مسألة انحسمت قيادتها والسيطرة عليها بمجرد ارتياد مبكر لآفاقها من قبل دول الغرب الكبرى. أما الانسحابات المتوالية لهذه الدول من أطر العولمة فقرينة منها على اعتراف صريح بالعجز عن الاستمرار في منافسة قـوى عولمية جديدة من خارج الغرب أو مجاراتها في مشروعاتها العلمية والتنموية الكبرى. هكذا يدخل خطاب «الكونية» الغربي أزمة مصداقـيته في امتداد تأزم مشروعه العولمي الذي بـدا وكأنه بات عبئا على دوله يدفعها إلى فرملة المسير فيه أو-قـل- إلى الانتقال فيه من ضفاف «الكوني» الممتنع والافتراضي إلى الجغرافيات الكيانية القومية الواقعية.

الأنكى في سيرة الخطابات الإيديولوجية الغربية ما تضمره من إرادة في التلاعبات بالحقائق وبالأشياء والعناصر وحملها على وجوه عدة يقع فيها تظهير هذا وطمس ذاك على منوال شديد الانتقائية. من ذلك أن الخطاب الغربي -المتراجع حثيثا عن فكرة الكونية- يتجاهل أن مراكز جديدة من خارجه، تقودها الصين، تصنع شيئا شبيها بتلك «الكونية» الغربية من خلال ذهابها في العولمة إلى الحدود القصوى. مع ذلك، لا نعثر في ذلك الخطاب الغربي على شبهة اعتراف بذلك، ولا على كلام متجدد على «كونية» مصنوعة في الشرق. والتجاهل هذا أمارة على نزعة من التمركز الذاتي تستبد بالغرب فتمنعه من رؤية غيره في العالم، ومن معاينة الحقائق الجديدة التي تولد خارج حومته، بما يقيم عليه الحجة من نفسه!

خطاب الكونية اليوم في حالة امتحان عسير لاختبار معدل الحجـية، أو معدل التـره والباطل، فيه بعد أن كشفت أزمة العولمة عورته الإيديولوجية، وبعد أن استعادت الدول والقوميات قدرتها على التنزل أطرا مرجعية متجددة لكل الفتوحات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية في العالم. على مثل هذا الخطاب أن يبـرر للعالم مفارقته الغريبة: الكلام الهذياني عن «الكونية» حين تحمل العولمة على حوامل غربية، والصمت المطبق عنها حين تنتقل العولمة شرقا وتستقر في مراكزه!