الغــرب وفلسطيـن: المعادلـة الفاسـدة

25 أكتوبر 2023
25 أكتوبر 2023

على شاشات التـلـفاز يتـفرجون، على الـدم الفلسطيني المسفـوك في غـزة؛ دم الضـحايا من الأطـفال والنسـاء والعـجـز يتـفرجـون؛ على الدمار الهائل الذي حـل بكـل مكان في القطـاع حتى أن عشرات الأحياء منه سـويت بالأرض وكأنْ لم تكـن؛ على طواقم الإسعـاف التي يقطـع رجالـها عشرات الأمتار فـوق جبال من الأنـقاض لينـتـشـلوا جريحا عـثـر عليه بين الخرائب؛ على مستشفيـات مـدمـرة أو جـرْداء من المستلزمات الطـبـيـة الأوليـة، وحيث يتكدس المئات في الأرجاء وهم ينزفـون منتظـريـن ما يشبـه المستحيـل؛ على قـوافـل النازحيـن جنوبا وقـد تـفحـمت مرْكباتـها والجثث بعد إذْ أخذتهم الطائرات الإسرائيليـة، غيلـة، وهم في رحلة البحث السيزيـفيـة عن «أمـان» من القتل الصـهيوني...؛ على جـحيـم يومـي يأتي من الجـو والبـر والبحر يتفـرجون؛ على عويـل رضـع وبكاء ثكالى واستغاثـات الناس يتفـرجون. ومن غير أن يـرف لأحـد منهم جـفن تـراهـم يتـفرجـون على مـوت جماعـي كما يتـفرجـون على فيـلم سيـنمائـي! وحين يقـفون وراء الميكروفونات ويتـحدثون، لا يرون من مشهد القيامة هذا غير «إسرائيل»، فتراهم يـطْـفـقون يـبْكونها ويعْـولون على دم اليهـودي المسفوك، متوعـدين فلسطيـن وشعبها والمقاومـة بالويل والثـبـور وعظائـم الأمور، ومباركين لـ «إسرائيل» («إسرائيلـهم») ما تفعله - وما ستفعـله- بهـم لكي تشفـي غليلهـا ثـأرا ونـقْـما منهم على القـرْح الذي أصابها فأوْدى بهـيـبتهـا.

هذا ما يفعله ساسـة الغرب من كـل مـلـل السياسة ونحلها اليوم، وفي كـل مواجهـة سبقتْ بين الجيـش الصـهيونـي والمقاومـة. هـم دائما مع إصبع «إسـرائـيل» على الزنـاد دفاعـا عـن «أمنهـا» - كما تـلوك ألسنتـهم - فلا يلتـفـتـون إلى لحم الضـحيـة الذي يقع عليه فعْـل إطلاق النـار! كل شيء في منظومة القيم والمعايير الغربيـة، ينقلب عالـيـه على سافـله حين يتعلق الأمر بهذا الكيان الذي يحمل اسم «إسرائيل»؛ هكذا يصبح الشيء نقيـضه المطـلق على التـو: الجـلاد ضحيـة والضـحيـة جـلاد؛ القاتـل مقتـول والقتيـل قاتـل؛ الاحتلال مشروع والمقاومة «إرهاب»؛ المـحتـل، دائـما، في حالة «دفاع عن النـفس» وصاحب الأرض يهـدد وجوده؛ الأمن «الإسرائيلي» خـط أحمـر وأمـن الشعب الفلسطيني مستباح؛ الـدم «الإسرائيـلي» «حـرم مـقـدس» والـدم الفلسطـيني «دنـس» حـلال؛ العدوان الصـهيوني «اضطراري» والدفاع الفلسطيني عن النـفس «عـدوان»...! كـل شيء أتى عليه خطابهم بالتحـوير والتزوير: حتى اسم الأرض - فلسطين - الذي استحال عندهم إلى «إسرائيل»! كأنـنا بهم ما عادوا يتـحمـلون وجود شعب فلسطين على بقايا بقايـا أرضـه؛ ذلك أن وجوده، في حـد ذاتـه، هـو في مقام التهديد الوجودي للآخـر «الإسرائيلي» الذي يبرر للأخيـر- في مـلتهم السياسيـة - أن يطلـقوا أيديهم في دمائـه «دفاعا عن النـفس»!!!

يبتـلـع الغرب السياسي - وقسـم من الغرب الثـقافي - لسانـه وقـيـمـه التي يـدعـي نسبة نفسـه إليها - كلما كان الآخـر (غير الغربـي) موضوع مـقالـه ومادة لسانـه؛ - في سـلم معاييـره -؛ إذْ يـعْرى هذا الأخير عن الحق في التـمـتع بالقيم عينـها وبانطبـاق المعايير عـيـنـها التي يـتـمتع بها «الرجل الأبيض»! يسري ذلك على الشعوب والأمم و«الأعـراق» كافـة في أرجاء الأرض قاطبة: على الصيـنـيـين والأفارقـة والأمريكـيـيـن اللاتيـنـيـين والهنـود وسائر من ليسوا من بيْضـة الغرب. ولكـن أظْـهـر أنـواع الميْـز والحـط من الآخـر في سياسات الغرب إنـما هـو ذاك الذي يكون مصروفا إلى العرب والمسلمين: والفلسطيـنيين في جملتهم؛ فهـؤلاء وحـدهم - والأخيرون منهم تحديـدا- مـن تـنْعتهم أجهـزة الغرب السياسيـة والإعلاميـة بأشـد الألفاظ تحقيرا وبـذاءة وسفاهـة لأنـهـم يشتبكون مع امتداده السياسي والمصلحي الاستراتيـجي («إسرائـيل») فيرفعـون التـحدي في وجـه الغرب، ويهـددونـه في أقـدس أقداسـه التي صنعها من عـدم محض ذات زمـن من اندفاعـته الكولونـياليـة الهـوجـاء.

ما أهـم أحـدا في ذلك الغـرب، المجـرد من كـل إنسانـويـة، إن كان الفلسطـيني يتمسـك بحقائـق التاريخ في دفاعـه عن حـق مهتـضـم ومصـادر ولا يخـتلق حـقـا باطـلا مزعـوما - كما يمكـن لأي مـؤرخ أو مفـكـر نزيـه في الغرب أن يسـلم بذلك -؛ ولا أهـمـه في شيء أن يكون صـراعـه مع المحـتـل هـو، على التحـقيـق، صراع التـاريخ مع الأساطـير، والحقوق مع المزاعـم...؛ يعنيـه فـقط - وفقـط - أن يكون لطـفْـلـه الصـهيوني المدلـل الحق في البقاء على الأرض المسروقة من أهلها الشرعيـين، وحراسـة ذلك البقاء بالقـوة؛ ثـم يـعْـنـيه أن يكون له الاقـتـدار الكافي على سحق عـدوه الصـغير (الفلسـطيـنـيين) وعـدوه الكبير (العـرب)، وعلى حمْـلـه - بالقـوة العمـياء - على التـراجع عن حقـه؛ إذْ ليس التاريخ المعيار المناسب، عند الغرب، لـزنـة مـقـدار الحـق في أي مطلـب، وإنـما المعيار الوحيد الأوحـد، الذي لا شريك له، هو مصلحة «إسرائيـل» والغـرب من ورائـها! وحـده الغـرب السياسـي، ومعـه «إسرائيـل» يرسم سياسـته تجاه فلسطين على معادلـة فاسدة مبْـناها على رجـحان مبدإ القـوة على مبـدإ الحـق، ووحـده يسـوغ تلك المعادلـة الفاسدة ويحميـها بالسياسة والسـلاح والمال والضغـط والابتـزاز!

هي عقـيدة سياسيـة مكـيـنة في التـاريخ الحـديث للغرب السياسـي: منذ جرائـم حـروب الإبـادة الجماعيـة للسـكـان الأصلـيـيـن في القـارة الأمريكيـة، من قـبـل جحـافـل الغـزاة الأوروبـييـن المستوطنـيـن، مـرورا بحقبـة الاستـعمار الكريـهة وفظاعاتها المهـولة، حتى هذا الفصـل الأخير المتجـدد من المذابـح الجماعيـة البربريـة التي تـنجـزها آلـة القـتـل في «إسرائيـل» - بـمباركـة مشيـنة من الغـرب - ضـد الفلسـطينيـيـن في قطـاع غـزة. هي عقيـدة مكينة لأنها تعبير عن ثـقافـة غربيـة مريضة بهـوس القـوة والتـفـوق والاستعلاء على غيـر «الرجـل الأبيض»؛ وهي عيـنـها الثـقافة التي ارْتضعــتْـها الحركـة الصـهـيونيـة من الاستعمار وقامت عليها «إسرائيـل»؛ الـثـقافـة التي لم تـقـترح على البشـريـة سوى العنصـريـة والحـروب والإبـادات الجماعيـة! ما الذي يجري في غـزة، اليوم، غير هـذا؟!