العلمانية على خط الخلاف بين البَرانية والجُوانية في الفكر الإسلامي

03 مايو 2021
03 مايو 2021

علي داود اللواتي

يبدو الحديث عن العلمانية في السياق السياسي العربي مبهما، وبلا معنى أو فائدة تقريبا، فأغلب الدول العربية تتبع سياسات علمانية واضحة فيما عدا بعض الجوانب المرتبطة بالأحوال الشخصية كالميراث والأحوال العامة كالتقويم الهجري، رغم أن دساتيرها تعتبر الشريعة الإسلامية مصدرا للقوانين. من هذا المنطلق، يكون الحديث عن العلمانية في السياق الاجتماعي والفردي هو الأكثر واقعية.

رغم كثرة الجدل حول مفردة العلمانية وأنواعها وتصنيفاتها إلا أن جوهرها كما يوضحه أحد الباحثين هو «نظام معين في الأخلاق وخاصة في الحقوق الاجتماعية يقوم على أساس مفروضات مسبقة تقرر أن المعايير والسلوكيات ينبغي تعيينها من خلال النظر إلى هذه الحياة، في هذه الدنيا، والعمل على توفير الرفاه الاجتماعي، وفي هذا الباب لا ينبغي اللجوء إلى تعاليم الدين». إذن الفرد أو الجماعة العلمانية لا تبحث عن مسوغات أو تبريرات دينية لحل المشاكل التي تواجهها في هذه الحياة (الدنيا) - وجدير أن يتم التشديد على سمة (الدنيوية) هنا - بل تعتمد على النظر الواقعي لسلسلة الغايات والوسائل. وبهذا التعريف يصبح الكثير من الأفراد حتى أولئك الذين يرفضون العلمانية ظاهرا، يصبحون علمانيين واقعا وسلوكا، فالفرد الذي يعامل الآخر وفق قواعد العرف الإنساني التي باتت معروفة ومنتشرة اليوم هو علماني حتى لو برّر فعله بنصوص دينية، ذلك لأن النص الديني عنده تابع لفعله وليس العكس، بل لعله يضطرب ويشعر بالتناقض لو لم يجد نصا دينيا مبررا.

إن (الدنيوية) هي سمة أصيلة في التوجه العلماني، هي نفسها أساسا، وهي لا تعني الاهتمام بالملذات والشهوات كما يتم تصويرها عادة في الفهم الديني، بل وبكل بساطة تعني الاهتمام بتوفير الرفاه وتحقيق السعادة في هذه الحياة وعدم تأجيلها لحياة أخرى، وحل المشاكل التي تواجه الحياة في نفس هذه الحياة لا في حياة أخرى، ولذلك ذهب بعض المفكرين مثل عبدالكريم سروش إلى أن الدين لا يمكن أن يكون علمانيا بهذا المعنى، لأنه لا يهمه أن يحقق البشر السعادة والرفاهية في هذه الحياة بشكل أساسي، ولذلك هو لا يتحدث عن بناء أنظمة سياسية أو اقتصادية مثلا، ولا يمكن استنباط تفاصيل كهذه من نصوصه. الدين يهتم بالحياة الأخرى وإن حصل أن تحدث عن هذه الحياة فيكون ذلك بلحاظ الحياة الأخرى وليس عن أصالة. فالحياة الدنيا في نظر الدين هي لا شيء تقريبا مقارنة بالحياة الآخرة. من جهة أخرى لا تنفك الحداثة عن العلمانية، فكل فرد حداثي وكل جماعة حداثية هي علمانية تلقائيا، وذلك لأن الحداثة هي طريقة في التفكير والتصرف بعيدة كل البعد عن معاني التقليد والطاعة. الفرد الحداثي تجريبي في أسلوب تفكيره واعتقاده، يريد نتائج ملموسة يمكن قياسها، وهو وإن رجع إلى مختص للمعرفة أو المشورة لا يأخذ منه كل شيء، بل يعرض عليه المشكلة بوضوح ويطلب منه حلا أو جوابا واضحا، وقد يتباحث معه، وقد يرجع إلى مختص آخر، ويأخذ أكثر من رأي. يلخص مصطفى ملكيان أهم سمات الحداثة غير القابلة للاجتناب فيما يلي، وهي كلها تؤدي إلى توجه علماني: ١- اتصاف الحداثة بكونها منهجا برهانيا استدلاليا. ٢- عدم الوثوق بالتاريخ وقلة الاعتماد عليه. ٣- الحداثة آنية مكانية بمعنى أن من يقترح عليها حلا لمسألة (نظرية) أو مشكلة (عملية)، فلا بد من اختبار هذا الحل، الآن، وفي هذا المكان، لمعرفة آثاره ونتائجه. ٤- انهيار وتزلزل الأحكام والقوانين الشمولية القديمة. ٥- سلب القدسية من الأشخاص. ٦- إن للأديان التاريخية أحكاما ومتعلقات وتبعات؛ يدرك الإنسان الحديث أنها نتيجة اتصاف هذه الأديان بكونها محلية.

الجوانية والبرانية

تُذكرنا العلمانية وفق المنطلقات السابقة بالصراع المتجدد بين البَرانية والجُوانية في الفكر الإسلامي. أي بين التيار الإسلامي الذي يركز على الظاهر أكثر من الباطن، وعلى الإسلام أكثر من الإيمان، وعلى الجوارح أكثر من العقل والقلب، والعلوم النقلية أكثر من العقلية والنفسية، فيكون الفقه والحديث والتفسير عنده مُقدم على الحكمة ومعرفة النفس، والتيار الإسلامي الآخر الذي يهتم بالإيمان والعرفان والحكمة أكثر من الفقه والحديث والتفسير.

لعل الكثيرين لا يعلمون بوجود مثل هذا الخلاف بين المسلمين منذ القدم، فتجدهم يحذرون ويتخوفون من العلمانية التي تقترب إلى حد ما من تيار الجوانية في الإسلام والنقد الذي وجهته للبرانية. يعترض الغزالي مثلا على تغير معنى الفقه في زمانه، فبينما كان المعنى الحقيقي لمفردة الفقه هو «الإحاطة بالحقيقة»، فقد حدث في زمانه أن «خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها». من جانب آخر يكتب ملا صدرا الشيرازي: «إن الناس في هذا العصر لا يعرفون شيئا عن علم التوحيد أو العلم الإلهي، وفي حياتي كلها لم ألتقِ شخصا عنده هذا العلم. وبالنسبة لمعرفة النفس، فإن العلماء مجردون منها تماما، فضلا عن العوام. وأكثرهم لا يؤمن إلا بأشياء من المحسوسات». إن العلم الحقيقي عند ملا صدرا هو ذاك المكتسب عبر المكاشفات، وليس المتعلق بالمعاملات أو بفروع المعرفة الأخرى، فالمعرفة الحقيقية التي كانت في حوزة الرسول وأصحابه لم تكن الفقه أو الكلام أو الفلك أو الفلسفة. المعرفة الحقيقية – معرفة النفس والله – مشتقة من التفكر في بطون القرآن والحديث، وليس من الدراسة الشكلية المفصلة للظواهر.

بعد إيضاح معنى الإيمان والتفريق الواجب إقامته بينه وبين الإسلام، وبعد أن برهن على أن العلم المشار إليه في القرآن هو معرفة النفس التي تقود إلى علم التوحيد، يلتفت ملا صدرا إلى أنصار البرانية: «إن بعضا من الذين يبدو عليهم العلم لكنهم في الحقيقة أشرار وفاسدون، وبعضا من المتكلمين الخالين من المنطق السليم والخارجين عن دائرة الاستقامة والنجاة، أولئك الذين يتبعون المتشرعة غير أنهم لا يعرفون شيئا عن قانون العبودية لله، والذين ضلوا عن طريق الإيمان بالمبدأ والمعاد، قد ربطوا حبل التقليد الأعمى حول أعناقهم وجعلوا ذم الدراويش شعارا لهم».

لم يكن الخلاف بين الجوانية والبرانية في بطلان الفقه أو عدم بطلانه، فالغزالي وملا صدرا مثلا لم يكونا ضد الفقه أو الفقهاء بالجملة بل كانوا ضد المبالغات الفقهية وضد تركيز ما هو فرض كفاية وتقديمه لجمهور المسلمين على أنه هو العلم المقصود في القرآن الكريم.

العلمانية لا تقف بعيدا عن مثل هذا الخلاف في الحقيقة، فهي عندما تضع حدا لدور الشريعة في حياة الفرد والمجتمع تعتمد واقع الحداثة المتمثل في العقلية التجريبية وتعدد وجهات النظر، والعلمانية عندما تضع حدا لدور الشريعة في حياة الناس فإنها ليس بالضرورة تريد أن تلغيه كما لم يرد أنصار الجوانية أن يلغوا دور الفقه، وإنما هي تتجنب الفقه الذي يتعامل مع الحياة الخاصة والعامة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما يتعامل مع العبادات (بعقلية التعبد والطاعة)، حيث يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ويلغي وجود الإنسان ويخضع واقعه للنص، وإن ادّعى عكس ذلك.