الظل الظليل في مواجهة التضليل

27 يوليو 2021
27 يوليو 2021

بدر بن عبدالله الهنائي -

تناولت هذه المساحة مسبقا مفهوم حملات تضليل الرأي العام، والممارسات والأساليب التي تتبعها الجهات القائمة عليها في مستويي الوسائل والرسائل، ومدى حصانة المجتمع ضد تلك الحملات. غير أنه - وكما هو الحال في جميع المواجهات - لا يمكن الحديث عن كيفية تحصين ثغر واحد دون الحديث عن بقية الثغور وكيف تكون جزءا من منظومة الدفاع. لذا وإلى جانب ما يجب أن يدركه المجتمع من مفاهيم وممارسات مرتبطة بالتضليل، فإن من المهم أن تتكامل مع ذلك الأدوار التي تؤديها الأطراف الأخرى في المنظومة. ولأن الحديث قد مال إلى استخدام بعض المفردات المرتبطة بالمواجهة، فلا بأس أن يُنظَر إلى الأطراف الأخرى في المنظومة بأحد المنظورين: إما أن يكون كل منها خط دفاع في مواجهة التضليل، أو أن تكون تلك الأطراف جبهات مختلفة قد يُستَهدَفُ الرأي العام عبرها بحملات التضليل.

إذن ما الأطراف المكونة لمنظومة مواجهة حملات تضليل الرأي العام؟ لا تختلف النظرة لتلك المنظومة عن منظومة التواصل والإعلام بشكل عام، التي يمكن تصنيف الأطراف فيها - حسب الأدوار - إلى الجهة المركزية المنظمة والمشرفة على المنظومة، والمؤسسات والقنوات والمنصات الإعلامية الرسمية والخاصة، والمؤسسات والجهات التي تمارس التواصل المؤسسي، والمجتمع المستهلك للمحتوى الإعلامي أو الجمهور المستهدف به. وبغض النظر عما إذا عُدت تلك الأطراف خطوط دفاع أو جبهات مختلفة، فقد بينت تجارب بعض الدول إمكانية توزيع الأدوار على تلك الأطراف من أجل تحجيم حملات التضليل والتقليل من تأثيرها على الرأي العام، التي كانت مبحثا ذا أهمية بالنسبة لكاتب المقال وبعض أقرانه - ولهم كل التقدير - في مرحلة مهنية سابقة.

بالنسبة للأدوار التي يمكن أن تتولاها الجهات المشرفة مركزيا، يمكن الاستشهاد بتجربة الحكومة البريطانية التي سعت في العام 2018 إلى تأسيس وحدة للاستجابة السريعة Rapid Response Unit بحيث تتمتع بالسرعة والمرونة والقدرة على الوصول إلى المعلومة من أجل التعامل مع الشائعات والتضليل. وتتمحور أدوار تلك الوحدة في مراقبة المحتوى المتداول عبر منصات التواصل، وتحديد الموضوعات التي قد تتطور إلى مشكلة، وتحديد المخاطر ومستويات التفاعل مع كل منها، وصناعة محتوى قابل للتداول والمشاركة بصيغ مختلفة بل وحتى الترويج لها عبر خيارات الإعلان في منصات التواصل. ويستعرض البريطانيون في معرض حديثهم عن هذه الوحدة أمثلة لأخبار مضللة جرى التعامل معها مثل كيفية تعامل بريطانيا مع أخبار مضللة حول طبيعة تعاملها مع ما كان يعرف بقضية استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، وكيف أن المعلومات التي طرحت تلقى رواجا وقبولا رغم عدم صحتها، مع الاستشهاد بأن المعلومات الرسمية الصادرة عن الجهات الحكومية لم تكن تظهر في محركات البحث إلا بعد 15 صفحة من النتائج المتعلقة بمعلومات غير صحيحة.

ولا يجد البريطانيون ضيرا في الإفصاح عن أن تلك الوحدة تعمل بشكل لصيق مع فريق اتصالات الأمن القومي، والذي يتولى بدوره مهمة إسناد الحكومة في التعامل مع ممارسات التواصل التي تحدث انعكاسات على الأمن القوم بما فيها التضليل، كما يعمل الفريقان جنبا إلى جنب في أوقات الأزمات. أما في سنغافورة، فقد اتبعت الحكومة بالتعاون مع البرلمان نهجا صارما من أجل مواجهة حملات التضليل، كان أساس تلك الجهود تشكيل لجنة مشتركة تضم وزراء وأعضاء في البرلمان من أجل دراسة وضع ما يمكن أن يؤثر في الرأي العام من حملات تضليل وشائعات من أجل الخروج بحلول للتعامل مع ذلك. وقد خرجت تلك اللجنة بتصورات حول كيفية تمكين المجتمع من مواجهة حملات التضليل عن طريق التعليم، بالإضافة إلى إيجاد المنظومة التشريعية التي تضمن تحجيم تلك الحملات، وكذلك تنظيم العلاقة مع أطراف ذات أهمية مثل منصات التواصل ذاتها ووسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية.

كما كللت سنغافورة تلك الجهود بإصدار قانون الحماية من التضليل والتلاعب عبر الإنترنت Protection from Online Falsehoods and Manipulation Act والذي جرت صياغته وإقراره من أجل خدمة عدد من الأهداف أهمها منع تداول التصريحات الرسمية المفبركة وتمكين إجراءات التصدي لنشرها وتداولها، وإيقاف تمويل ودعم المواقع الإلكترونية والمنصات التي تقوم بنشر الشائعات والأخبار المضللة بشكل متكرر، وتفعيل تدابير وممارسات رصدها والتحكم بها والحماية منها بما يقلل من سوء استخدام الإنترنت. كما يفرض القانون نشر التوضيحات عبر كل المنصات التي قامت بنشر خبر مضلل لضمان وصولها إلى كل من قد يكون تعرض مسبقا لذلك الخبر المضلل، بالإضافة إلى إمكانية إيقاف المواقع الإلكترونية والمنصات في الحالات الأكثر خطورة. ويحدد القانون أطرا زمنية ترصد مدى تكرار قيام المواقع الإلكترونية والمنصات بنشر المحتوى المضلل واتخاذ عقوبات جنائية سواء كان يديرها أفراد أم شركات، بالإضافة إلى وضعها ضمن قائمة سوداء تجرم حتى من يقوم بالإعلان عبرها، بالإضافة إلى حجبها عن مستخدمي الإنترنت في سنغافورة.

أما في الفلبين - وعلى خلفية ممارسات التضليل التي رافقت الانتخابات الرئاسية منتصف العقد الماضي - فقد قامت اللجنة المشرفة على انتخابات العام 2019 بإبرام اتفاقية مع منصة فيسبوك من أجل حذف الأخبار الكاذبة والمضللة التي تنشر في سياق الحملات الانتخابية، حيث تولى فريق مكون من 10 أشخاص مهمة الرصد المستمر لمنصة فيسبوك من أجل إبلاغ المنصة حول المحتوى المخالف من أجل حذفه مباشرة.

وعموما فإن الإجراءات التي تتبعها الحكومات في مواجهة التضليل تتنوع بناء على طبيعة وجود تلك الممارسات فيها، وكيفية توزيع الصلاحيات على السلطات، والقوة التفاوضية مع منصات التواصل العالمية، والمنظومة التشريعية المنظمة لذلك، ولكن يبقى المنطلق الأهم لتلك الإجراءات المحافظة على الأمن الوطني وسيادة الدولة وصيانة منجزها التنموي والحضاري.

* مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية