الحضور العماني في المؤتمرات العلمية.. منتدى دراسات الخليج أنموذجًا

15 ديسمبر 2025
15 ديسمبر 2025

إن المؤتمرات العلمية ليست مجرد مناسبات أكاديمية عابرة، لكن يُمكن أخذها على أنها مؤشرات حيوية على الحقل البحثي في أي بلد.

وعليه فإنه يُمكن الانطلاق منها لمعرفة أو فهم القدرة البحثية والمعرفية الموجودة في بلد ما. وقد شارك العمانيون في كثير من المؤتمرات على مدى سنوات عديدة مستحضرين معهم قدراتهم البحثية والمعرفية، وناقلين همومهم المجتمعية والسياسية والفلسفية، التي تشكّل نقطة مركزية لطرح تساؤلا محوريًّا: ماذا يعني أن يكون حضور الباحث العماني أكثر كثافة خارج عمان منه داخلها؟

في الأيام الماضية، كان الحضور العماني كبيرًا في منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية الذي يقيمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بشكل سنوي.

أثّر الحضور العماني في المنتدى ومجرياته، سواء من قبل الباحثين المشاركين الذين وصل عددهم إلى ستة عشر باحثًا تقريبًا، والحضور الذي وصل إلى عددٍ مساوٍ، إن لم يكن أكبر من عدد الباحثين، بين كتّاب وباحثين وإعلاميين.

هذا الحضور يشير إلى قدرة الباحثين العمانيين على قراءة الواقع المجتمعي والسياسي الراهن والماضي والاستشراف المستقبلي في عمان وخارجها.

إن مثل هذه المؤتمرات وهذه المشاركات تفكك الصورة النمطية التي كثيرًا ما تتردد حول الباحث العماني ـ وغيره من الباحثين في المنطقة ـ بوصفه متلقيًا لا منتجًا، إذ إن المشاركة البحثية القادرة على صناعة المعرفة وإنتاجها يدلّ على إمكانية الخروج من وهم أن المعرفة النظرية لا تنتج إلا في الغرب، وتفتح مجالا لإعادة قراءة الأعمال التي تنتج في عمان والمنطقة، على اعتبار أنها تنتج المعرفة من الداخل، ومن خلال الاشتباك مع الأحداث من الداخل، لا من الخارج.

المشكلة الأساسية التي يُمكن توصيفها في هذه الحالة، هي أن المسألة ليست في الكفاءة والقدرة البحثية، وإنما في غياب البنية الحاضنة والمنصة التي يُمكن أن يكون الباحث العماني حاضرًا فيها في الداخل.

وقد ناقشتُ شيئًا قريبًا من هذه المسألة في مقال سابق بعنوان (مراكز الأبحاث، حاجة راهنة في عمان) وكذلك ناقشها كتّاب وباحثون آخرون من قبل في مقالات وكتابات متعددة. كما أن هناك أبحاثًا أكثر تركيزًا وتعميقًا يتم إنتاجها حول ضرورة وجود مراكز الأبحاث المستقلة القادرة على استقطاب الباحثين العمانيين والباحثين من الخارج، حيث إن الكثير من الموضوعات حول عمان غير مبحوثة ولابد من التطرق لها بشكل منهجي حتى تغطى الفجوات المعرفية والبحثية في الدراسات واعتبارها قاعدة بيانات ومراجع يُمكن العودة إليها في الكتابات المستقبلية.

غياب المنافذ البحثية في الداخل إشكال بنيوي وليس فرديًا، حيث إن وجود المؤتمرات المنتظمة ومراكز الأبحاث الفاعلة والمجلات المحكمة المنهجية والنقاشات العامة حول المعرفية، يشكّل فارقًا في الإنتاج المعرفي ويعزز من القدرة المعرفية والبحثية والإنتاجية، ويساهم في التخلص من الاعتقاد أن لابد من العودة للإنتاجات الغربية (الأوروبية والأمريكية في العادة) ويحدث نوعًا من التوازن في الحوار البحثي القادر على إنتاج المعرفة عن المنطقة ـ وعن عمان بالطبع ـ من داخل المنطقة نفسها، دون الحاجة للصمت عن الظلم المعرفي (الأبستيمي) الذي يُمكن أن ينتج عن الأبحاث التي تصدر من الخارج.

وعلى الرغم من أن بعض المراكز الثقافية في عمان ـ مثل النادي الثقافي والجمعية العمانية للكتّاب والأدباء ومنصة مجاز وغيرها ـ تقوم بدور فعّال في إنتاج الحوار المعرفي والثقافي المستمر، إلا أنها لا تكفي ولا تسد الحاجة عن وجود مراكز الأبحاث والمؤتمرات المنتظمة التي يُمكن أن ينتج منها دراسات قادرة على التعمّق بشكلٍ أكبر في فهم المجتمع والدولة والفكر. كما أنها لا تغني عن وجود الجمعيات واللجان المتخصصة، في المجالات المختلفة (مثل الفلسفة، والسياسة، والأنثروبولوجيا، والأمن، وغيرها)، مما يضمن عدم تهميش النقاش المحلي، وتقليل هجرة الأفكار والعقول للخارج طلبًا في الحصول على المنافذ البحثية التي يُمكن أن تتحقق في الداخل.

الإنتاج المعرفي والبحثي في الخارج -على الرغم من أهميته- يفقد المجتمع القدرة على تمديد النقاش حول القضايا التي تتعلق به بشكل مباشر. حيث إن هذه الأسئلة والنقاشات ينبغي أن تتطور بشكل أكبر، وإذا ما طرحت في الداخل فإن احتمالية تمددها وقدرتها على التراكم تصبح أكبر وبشكل أكثر عمقًا.

ومن هنا تنبع أهمية وجود فضاءات داخلية تسمح بالاحتكاك بين الباحث والجمهور وتربط الأبحاث بالسياسات العامة والأفكار المجتمعية، وبناء تقاليد نقاشية لا ترتبط بالمواسم أو المناسبات أو المؤسسات الحكومية/ الرسمية بشكل مباشر.

إن حضور الباحث العماني في المؤتمرات الإقليمية والدولية هي قيمة مضافة لعمان والإنتاج المعرفي في الداخل، لكنه لا يغني عن الحضور الداخلي، ومن أجل تحقق هذا الحضور الداخلي لابد من وجود الفضاءات العلمية والبحثية التي تستقطب الباحثين. ومن هنا فإن الاعتراف بالباحث العماني وسماع صوته، ووجود المنصات والمنافذ والفضاءات البحثية، وجعل المعرفة جزءًا من النقاش العام، تصبح ضرورة لا يُمكن الاستغناء عنها؛ إذ إنها تحوّل صوت الباحث في الداخل إلى أمرٍ طبيعي واعتيادي كما ينبغي أن يكون، لا استثناءً.