الصين تزدهر وأمريكا تنحدر

04 أكتوبر 2025
04 أكتوبر 2025

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

طوال عقد تقريبًا كانت الولايات المتحدة تخدع نفسها بفكرة أنّ الصين قد فقدت بوصلتها. فبعد خمسة وثلاثين عامًا من نمو مذهل تعثّرت بكين داخليًا وخارجيًا؛ إذ شدّد قادتها قبضتهم على بعض القطاعات الأكثر ابتكارًا في البلاد، مثل التكنولوجيا والتعليم ما دفع روّاد الأعمال إلى الهجرة أو الصمت. كما نفّذ دبلوماسيوها ما عُرف بـ«دبلوماسية الذئاب المحاربة»، وهي نهج حاد في الخطاب الدبلوماسي الأمر الذي نفّر جيرانها من الهند إلى أستراليا إلى فيتنام، غير أنّ تلك المرحلة انتهت؛ فقد صحّحت القيادة الصينية مسارها. 

في الشهر الماضي، وبينما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقف في الجمعية العامة للأمم المتحدة متهمًا الدول بالفشل، وباحثًا عن مجدٍ شخصي حين تحدّث عن عدم اختياره لترميم مبنى المنظمة منذ عقود؛ كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يطرح «مبادرة الحوكمة العالمية» في الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة. وقد دعا إلى تعزيز النظام متعدد الأطراف في أبعاده المختلفة؛ ليضع بكين في موقع القوة الكبرى البنّاءة وصاحبة الأجندة. وفي الوقت الذي تغرق فيه واشنطن في حمّى الحمائية الغريبة (منها التهديد بفرض رسوم تصل إلى 100% على الأفلام الأجنبية) أعلنت الصين أنها لن تستفيد بعد الآن من أي امتيازات خاصة بالدول «النامية»، وهو مطلب ظلّ يردده دعاة التجارة الحرة لعقود. وفي حين تفرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية تثقل كاهل الدول الفقيرة في آسيا وإفريقيا فتحت الصين أسواقها بلا رسوم جمركية أمام كل «الدول الأقل نموا»، وبعض الدول متوسطة الدخل التي ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية يشمل ذلك 53 دولة إفريقية. وقد أشار الباحثان جوليان جيويرتز وجيفري بريسكت في مقال بمجلة فورين أفيرز إلى أنّ بكين انتقلت من موقف دفاعي متحفظ إلى موقف أكثر جرأة واستراتيجية. وبينما تركت واشنطن حلفاءها وخصومها في حيرة إزاء سياساتها المليئة بالرسوم والإهانات قدّمت الصين نفسها كدولة جادة ذات سياسات متوقعة وثابتة. 

غير أنّ ساحة التنافس الأهم تبقى التكنولوجيا. وهنا سبقت الصين بالفعل في مجالات عدة؛ ففي تكنولوجيا الطاقة الخضراء من الألواح الشمسية إلى البطاريات والسيارات الكهربائية أضحت هيمنة بكين ساحقة. وهذه الأدوات تتحول إلى أوراق قوة جيوسياسية؛ إذ تعرض الصين محطات طاقة شمسية ومصانع بطاريات وحافلات كهربائية على دول في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا. وقد تتبّعت وكالة «بلومبيرج» ثلاث عشرة تقنية تكنولوجيا مهمة، فوجدت أن الصين تتصدّر في خمس منها، وتقترب بسرعة في سبع أخرى. ويبقى المجال الذي تعتقد واشنطن أنها تتقدّم فيه بلا منازع هو الذكاء الاصطناعي؛ فشركات أمريكية مثل «أوبن إيه آي» و«أنثروبيك» و«جوجل» تهيمن على السباق المحموم نحو «الذكاء الاصطناعي العام» أي (أي ذكاء اصطناعي قادر نظريًا على أداء جميع المهام البشرية الفكرية) مع أنّه لا يزال أقرب إلى فكرة نظرية منه إلى هدف محدّد، ولا أحد يعرف على وجه الدقة ما معنى الفوز في هذا السباق. 

لكنّ نهج الصين في الذكاء الاصطناعي مختلف جذريًا؛ فهي لا تلهث خلف وهم «الذكاء الاصطناعي العام»، بل تركّز على التطبيقات العملية، وتبنّي الذكاء الاصطناعي في صورته الحالية. تسعى بكين إلى إدخال هذه التقنية في كل زاوية من اقتصادها ومجتمعها: في سلاسل الإمداد، والمدن الذكية، والرعاية الصحية، والمراقبة، والطائرات المسيّرة، والروبوتات. وبهذا يتحقق أثر اقتصادي ملموس وسريع؛ إذ ترتفع الإنتاجية، وتُدمج التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية. 

كما أنّ نموذج التبنّي مختلف؛ ففي حين تضع شركات أمريكية نماذجها المتقدمة خلف جدران احتكارية تطلق الشركات الصينية أنظمة ذكاء اصطناعي مفتوحة المصدر أبرزها «ديب سيك» يمكن تعديلها واستخدامها بسهولة. والمفارقة أنّ الصين «الشيوعية» باتت تتبنّى منصات مفتوحة بينما تفضل أمريكا الاحتكار والإغلاق! وقد يجعل هذا من الذكاء الاصطناعي الصيني معيارًا عالميًا خاصة في العالم النامي حيث تبحث الحكومات والشركات عن أدوات رخيصة ومرنة. وإذا أضفنا إلى ذلك تفوّق «هواوي» الصاعد في تكنولوجيا الجيل السادس يصبح مرجّحًا أن تكون الواجهة التقنية لمعظم دول العالم صينية لا أمريكية. إن ما يجعل الاستراتيجية التكنولوجية الصينية بالغة القوة هو تكاملها عبر المجالات؛ فهي لا تبني نماذج ذكاء اصطناعي فحسب، بل تنسجها مع الأجهزة والبنية التحتية والمدن. 

انظر إلى الروبوتات؛ فالشركات الصينية تنتج نماذج بشرية أو رباعية الأرجل مزوّدة بحساسات متقدمة تمكّنها من «الرؤية» و«التفكير» في البيئات الواقعية. وفي العام الماضي وحده ركّبت الصين قرابة تسعة أضعاف عدد الروبوتات الصناعية التي ركّبتها الولايات المتحدة! 

أو خذ الطائرات المسيّرة والسيارات الطائرة؛ الصين تبني ما تسميه «اقتصاد الارتفاعات المنخفضة»، أي استخدام المجال الجوي الحضري للمركبات الجوية ذاتية القيادة. ففي مدينة شينزين توصل الطائرات المسيّرة الطرود، وفي مدينة جوانججو بدأت سيارات «إي هانج» الطائرة بنقل الركاب. وهنا يظهر مجددًا تفوّق التكامل من حيث الحساسات، والذكاء الاصطناعي، والأجهزة، والتشريعات، كلها تتناغم لإنتاج نقلة نوعية. 

في المقابل نجد الولايات المتحدة قد قلّصت تمويلها للأبحاث الأساسية في العلوم والتكنولوجيا بينما تتعرض أفضل جامعاتها لحملات سياسية؛ إذ تقود الحكومة حربًا معلنة ضد جامعة هارفارد التي ما زالت تُصنّف غالبًا الأولى عالميًا. بل إن العاصمة واشنطن كادت تشهد شللاً حكوميًا فيما استدعى الرئيس ووزير دفاعه مئات الجنرالات؛ لإلقاء محاضرات عليهم عن «البقاء نحيفين»، ومحاربة ما يُسمى «الأيديولوجيا المستيقظة»، أي حركات الوعي الاجتماعي، والعدالة العرقية والجندرية. 

 فريد زكريا كاتب عمود في الشؤون الدولية بصحيفة واشنطن بوست، ومقدّم برنامج (جي.بي.سي) على شبكة «سي إن إن». 

 عن واشنطن بوست