الشـرعـية الديمقـراطيـة والضغـط الغـربي

01 نوفمبر 2023
01 نوفمبر 2023

سيطر في علم السّياسة الحديث، منذ العقد الثّـاني من القرن العشرين، مفهومٌ للشّرعيّة السّياسيّة بوصفها تلك التي تتأتّـى من تطبيق آليات النّظام الدّيمقراطيّ، وأوّلها التّمثيل والاقتراع. هكذا اقترنت الشّرعيّة السّياسيّة بالدّيمقراطيّـة، في الفـقه السّياسيّ الغربيّ المعاصر، وبات النّظام السّياسيّ الأعلى كعبًا في المشروعيّة وفي الشّرعيّة هو النّظام الخارج من رحم صناديق الاقتراع. وما هي إلاّ عقودٌ قليلة حتّى انتقلت هذه العقيدة من البيئات الأكاديميّة إلى ميدان الخطاب السّياسيّ، الرّسميّ والحركيّ، وميدان الصِّحافة والإعلام لتتحوّل، مع التّواتُر والاستهلاك، إلى ما يشبه الثّـقافة الجمعيّة. بل يكاد أن يصبح في حكم المعتاد والمألوف، اليوم، أن يُنْظَـر إلى الشّرعيّة بما هي تلك الحالة السّياسيّة المجسّدة في «حكومات منتَـخَبَة»، حتّى من غير أن يُعَار أيُّ انتباهٍ إلى ما عساهُ يكون اعْـتَـوَر الانتخاب ذاك من ثغرات عميقة تطعن في حُجّية ذلك الانتخاب أو تنال من تمثيليّـته!

كان ماكس ڤـيبر، عالم الاجتماع الألمانيّ، هو مَـن وضَع هذا النّـمط من الشّرعيّة السّياسيّة في رأس هرم الشّرعيّة، حين تصنيفه أنماط الشّرعيّـات، وأطلق عليه اسم الشّرعيّة العقلانيّة، إلى جانب كونـه المنظِّـرَ الفعليّ الأكبر للسّياسة وللشّرعيّة السّياسيّة في الفكر السّياسيّ المعاصر. تابعتْـه في ذلك حنّـة أرندت، عالمة السّياسة الألمانيّة - الأمريكيّـة، ولو من طريقٍ آخر هـو: نقد نقائض النّظام الدّيمقراطيّ وأوّلها النّظام الكُـلاّنيّ (التّوتاليتاريّ) في صيغتـيْـه: النّازيّـة الألمانيّة والسّتالينيّـة السّوفييتـيّة. لكنّها، وهي تكيل للنّظامين أعنف النّـقد وتُشخِّـص أعطابهما البنيويّـة، ما جَـرُؤت على أن تقارب مسألة الشّرعيّة في أيٍّ منهما لعلمها أنّ النّازيّـة أتت، كمشروع سياسيّ، محمولة على صناديق الاقتراع وأنّ للسّلطة البلشفيّة القائمة في الاتّحاد السّوفييتيّ شعبيّةً عريضة تعزّزت بانتخابات مجالس السّوفييتات. منذ ذلك الحين - بين عشرينيّـات القرن العشرين وأربعينيّـاته - باتت أفكار ماكس ڤـيبر وحنّة أرندت في السّياسة والشّرعيّة الزّاد الفكريّ الذي منه يقتات الخطاب اللّيبراليّ.

وعلى الرّغم من أنّ الشّرعيّة الدّيمقراطيّة افتضح أمْرُها بمناسبة قيام السّابقة النّازيّة (في ألمانيا) والفاشيّة (في إيطاليا)، فتكـشّـفت صناديقُ الاقتراع كائـنات سياسيّـةً حمَّـالةَ أوْجُـه، قد تُنـجب الدّيمقراطيّـة وقد تُنجب نقائضها، إلاّ أنّ العمل بهذه الموضوعة كان ممّا اقـتضَـتْـهُ الضّرورات بالنّسبة إلى الغرب السّياسيّ وخطابه اللّيبراليّ. كان ينبغي للغرب أن يتوسّـل مسألة الشّرعيّـة الدّيمقراطيّة ليقارعَ عدوَّيْـن: الشّرق الشّيوعيّ والجنوب التّحرُّريّ. لذلك انصرفت آلـتُـه الإيديولوجيّـة - الإعلاميّـة الثّـقافـيّة الكَنَسيّـة - إلى نشاطٍ دعائيٍّ محموم تغـيّـا تلميع الدّيمقراطيّـات اللّيبراليّـة الغربيّة، من جهة، والقـدْح في أنظمة الحكم «الاشتراكيّـة»، في الشّرق، وأنظمة الحكم الوطنيّة في بلدان الجنوب وبيان برّانيّـتها عن النّموذج الدّيمقراطيّ من جهة ثانية. وهكذا، ومن أجل نزع المشروعيّة عن أيّ نظامٍ سياسيّ آخـر، كرّس الخطاب اللّيبراليّ الاعتقاد بأنّ النّظام الوحيد الذي يتمتّع بالشّـرعيّة هـو النّظام الدّيمقراطيّ، متجاهلاً بذلك حتّى الشّرعيّـات الأخرى التي تحدّث عنها فـيبر وحلّـل نموذجها.

تحوّلـت مسألة الشّرعيّـة الدّيمقراطيّـة، شأن مسألة حقوق الإنسان، إلى ورقـة سياسيّة في المعركة المفتوحـة - بعد الحرب العالميّة الثّـانيّة - بين معسكر الغرب الرّأسماليّ ومعسكر دول شرق أوروبا والاتّحاد السّوفييتيّ والأنظمة الوطنيّة في العالم الثّالـث. ومع أنّ ما أحرزتْـهُ نخبٌ سياسيّـةٌ اشتراكيّة أو وطنيّة من مكتسبات جزيلة في مضمار التّنميّة والبناء الوطنيّ كان يجاوِز، أحياناً، ما استطاعتْـهُ نخبٌ ليبراليّـة في الغرب فشِلت في المجاراة الفشلَ الذّريع، إلاّ أنّ نجاحاتها ظلّت عُـرضَةً للتّزييف والتّبهيت من الأجهزة الدِّعائيّـة الغربيّة بدعوى أنّ الذين يقومون على أمـر السّلطة في تلك الدّول لا يتمتّعون بالشّرعيّـة الدّيمقراطيّة وليسوا منتخبين من الشّعب. أمّا حين كانت تجري انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة في تلك البلدان، فبات من المألوف في الدّعاية الغربيّـة أن يُطْلَق على النّظام السّياسيّ القائم، في معظم تلك البلدان، اسم نظام الحزب الواحد لينتقل الخطاب الغربيّ من بؤرة التّمثيل والاقتراع إلى بؤرة التّعدّديّـة السّياسيّة! ثمّ ما لبثت دعـوى الشّرعيّة الدّيمقراطيّة ووجوب الإقـدام على خطوات على طريقها - من قبيل إقرار الحريّـات العامّة والتّعـدّديّة الحزبيّة والتّمثيل السّياسيّ - في جملةِ عُـدَّةِ الضّغوط التي تمارسها دول الغرب على العالم قصد إخضاع إرادته لسياساتها، جنبا إلى جنب مع ضغوطٍ اقتصاديّة أخرى تدور على مطالبَ من قبيل: تفويت ممتلكات الدّولة إلى القطاع الخاصّ، ورفع الدّعم عن السّلع، وتحرير الأسعار، وفتح الباب أمام الاستثمار الأجنبيّ مع كـفِّ يد الدّولة عن الإشراف على القطاعات الاقتصاديّة... ونظير ذلك من المطالب/الضّغوط المرفوعة في وجه شعوب العالم غير الغربيّة وحكوماتها من قِبَـل دول الغرب، مباشرةً، أو من قبل المؤسّسات الماليّة الدّوليّـة (صندوق النّقد الدّوليّ، البنك الدّوليّ...). أمّا الهدف فواحد: إحداث انقلابٍ في النّظام السّياسيّ- الاجتماعيّ للبلدان غير الغربيّة قصد إخضاعها لإرادة الغرب وقُـواه الكبرى.

في حمأة هذه الحرب الإيديولوجيّـة- السّياسيّة التي يشنُّـها الغربيّون -حكوماتٍ وإعلاماً- على أنظمةٍ معادية لها تتمتّع بشرعيّات سياسيّة أخرى ينسى هؤلاء الغربيّـون أمريْـن:

أوَّلهما؛ أنّ أجهزةَ استخباراتِ دولٍ غربيّـة أَقْـدَمت في الماضي -كما في السّنوات الأخيرة- على إسقاط حكومات منتَخَبة انتخابـًا ديمقراطيّـاً لأنّ سياسات تلك الحكومات مناهضةٌ للسّياسات الغربيّة. وقد توسَّلت في ذلك الإسقاط وسائل عـدّة؛ من دعم انقلابات عسكريّـة من نوع الانقلاب الفاشيّ الذي قاده پينوشيه في الشّيلي ضدّ حكومة الوحدة الشّعبيّة (في عام 1973)، والذي انتهى بإسقاطها واغتيال الرّئيس المنتخب سالفـادور أَلْيِينْدِي، إلى دعـم «الثّورات» الملوَّنـة مثل تلك التي اندلعت في أوكرانيا (في العام 2014) وانتهت بإسقاط نظام الرّئيس فيكتور يانوكوفيتـش. وغنيٌّ عن البيان أنّ هذه السّوابـق من إطاحة الغرب بحكومات منتَـخَبَة مناهضة له يطعن في دعـواه الزّاعمةِ «دفاعاً» عن الدّيمقراطيّة والشّرعيّـة الدّيمقراطيّة.

وثانيهما؛ أنّ ابتزازاته السّياسيّة للعالم باسم الدّيمقراطيّـة لن يكون من شأنها سوى ترسيخ صورة سيّـئة عن الدّيمقراطيّـة، في قسمٍ كبير من العالم، مَبْـنَاها على الاعتقاد بأنّها ليست سوى وسيلة من وسائل الضّغط الغربيّ على الدّول وسياداتها وأنّها، بالتّالي، لا تنطوي على أيّ فائدة في خدمة مصالح الشّعوب.