الحرب التي نسيها العالم

05 ديسمبر 2023
ترجمة: أحمد شافعي
05 ديسمبر 2023

أليكس دي وال ــــ عبدول محمد

ثمة إبادة جماعية جارية في دارفور بالسودان، وذلك للمرة الثانية في غضون عشرين سنة. ويجري العنف هذه المرة تحت عينيْ الرئيس بايدن، دون أن يفعل هو أو إدارته ما يكفي لإيقافه. لكن بوسع الرئيس بايدن أن يفعل اليوم أمرين يمكن أن يكون لهما أثر حقيقي: أن يوقف حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط عن تسليح الجناة، وأن يدعم المبادرة الأفريقية ذات القيادة الكينية لإنهاء المجزرة.

في الأسابيع الأخيرة، اجتاحت قوات الدعم السريع السودانية شبه العسكرية، وهي كيان تجاري من المرتزقة، أربع مدن كبرى في دارفور بغرب السودان. وقد أعقبت كل غزو مجزرة ونهب استهدفا أهل هذه المدن من ذوي البشرة الداكنة. وبعد أن استولت قوات الدعم السريع على بلدة أردماتا في الرابع من نوفمبر تعرّض نحو ألف وخمسمائة شخص للذبح بحسب ما قالت جماعة حقوق الإنسان في دارفور. (في حين أن مسؤولا حكوميا محليا قال: إن عدد القتلى الدقيق غير قابل للتحديد ـ وإن لم ينف القتل نفسه.

القوات شبه العسكرية متحركة وشرسة، ويفتقر خصومها في الجيش النظامي، أي القوات المسلحة السودانية في دارفور، إلى الروح المعنوية فضلا عن أنهم أضعف منها تسليحا. ويبدو كما لو أن حملة قوات الدعم السريع سوف تستمر حتى لا يبقى مزيد من المدن للنهب، وحتى أن ينتهي التطهير العرقي للمجتمعات غير الناطقة بالعربية في دارفور أو تتقلص إلى عمالة ضئيلة الأجر في الأرض التي كانت ذات يوم ملكا لهم. ويلوذ الآن مئات الآلاف من المدنيين الفزعين بمدينة الفاشر عاصمة دارفور الشمالية والمدينة الوحيدة التي لم تستولِ عليها بعد قوات الدعم السريع شبه العسكرية.

وقوات الدعم السريع هي الجيل الثاني من ميليشيا الجنجويد التي اجتاحت قبل عشرين عاما عشرات من قرى المنتمين إلى مجتمعات الفور والمساليت والزغاوة في دارفور. في ذلك الوقت، حشد الرئيس عمر البشير الجنجويد لسحق تمردات دارفور عن طريق القضاء على المجتمعات غير الناطقة بالعربية في المنطقة. فأحرق رجال الميلشيا وقتلوا واغتصبوا ونهبوا. وتعرّض عشرات الآلاف من المدنيين للذبح، وهلك مئات الآلاف من الجوع والمرض. ومضى الجنجويد -وهم من البدو الناطقين بالعربية على حافة الصحراء الذين أفقرتهم عقود من الإهمال فضلا عن الجفاف وزحف الصحراء- يستولون على الأرض وينهبون.

بحلول سبتمبر 2004، قدم وزير الخارجية كولن باول الأدلة وأعلن أن الجنجويد ارتكبوا جريمة إبادة جماعية. وانضم جورج كلوني ومجموعة من المشاهير والسياسيين الآخرين إلى تحالف (إنقاذ دارفور) لمطالبة الرئيس جورج دبليو بوش بإرسال قوات دولية لإنهاء أعمال القتل. وقد نجحوا في توجيه اهتمام العالم إلى الأزمة الجارية: فقامت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وبرنامج الغذاء العالمي بتنفيذ عملية إنسانية كبرى في المنطقة، وأرسلت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي قوات لحفظ السلام.

كما نظرت المحكمة الجنائية الدولية في الفظائع التي ارتكبت في دارفور، وأصدرت مذكرة اعتقال للرئيس البشير. وبعد الإطاحة به في عام 2019، سجنته السلطات السودانية بتهم فساد، لكنها عجزت عن تسليمه إلى المحكمة التي تجري محاكمة أحد قادة الجنجويد أمامها. وكان أحدنا، وهو دي وال، أول شاهد خبير في القضية خلال العام الماضي.

برغم ذلك كله، لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام بسرعة، ولم يتمكن ثلاثة ملايين شخص من النازحين، يقيم أغلبهم في مخيمات إغاثة ضخمة، من العودة إلى ديارهم. هدأت أعمال القتل والحرق، وأضفى الرئيس البشير الطابع الرسمي على الجنجويد بتحويلها إلى قوات الدعم السريع، برئاسة القدير والقاسي الفريق محمد حمدان، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي. كما اكتشف أيضا الذهب في دارفور، وسرعان ما أصبحت قوات الدعم السريع هي أكبر تجار الذهب في السودان، الذي يصدَّر أغلبه إلى دبي، فضلا عن كونها (الدعم السريع) مصدرا للمرتزقة الذين استخدموا في حرب اليمن.

ولم تحصل دارفور على اتفاق السلام الذي وعدت به منذ فترة طويلة إلا في عام 2020، بعد احتجاجات المدنية السلمية التي أدت إلى تشكيل حكومة انتقالية واعدة بالديمقراطية في السودان. رجع المتمردون المسلحون في دارفور إلى ديارهم وتولى قادتهم وظائف حكومية، وبدأت المجتمعات غير العربية التي كانت ضحية الحرب الأخيرة تأمل في إمكانية عودتها أخيرا إلى قراها السابقة. وكان المخطط لـ«القوة المشتركة لحفظ الأمن» المؤلفة من الأطراف الثلاثة -أي المتمردون السابقون ووحدات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع- أن تقوم بحماية المدنيين وحفظ السلام. وبعد أشهر قليلة، انضمت الولايات المتحدة إلى حكومات غربية أخرى ـ بناء على طلب السودان ـ في إغلاق بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور، وسحبت جميع قواتها الدولية لحفظ السلام بحلول منتصف عام 2021.

كان غياب قوات حفظ السلام محسوسا بشدة عندما اندلع صراع على السلطة بين الفريق حمدان قائد قوات الدعم السريع والجنرال عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية وتحوّل إلى حرب شاملة في الخامس عشر من أبريل. وفي غضون أيام، انفجر العنف في دارفور أيضا، إذ حملت قوات الدعم السريع وميليشيات عربية أخرى مرتبطة بها على نفس الجماعات المدنية التي كانت ضحية لها في المرة السابقة.

تهاجم قوات الدعم السريع وحدات الجيش، لكنها ترتكب أيضا جرائم قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية إذ تستهدف مجموعات عرقية محددة بالقتل والتشريد والتجويع. يحرص الفريق حمدان وكبار قادته في تصريحاتهم العلنية على تجنب أي شيء يشير إلى نية الإبادة الجماعية، أما قوات الدعم السريع فتفيد أخبار كثيرة بأن مقاتليها يستخدمون لغة التجريد من الإنسانية المعهودة لدى مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية. ومن المؤكد أن حملة القتل والتهجير القسري التي تقوم بها قوات الدعم السريع تتطابق مع الفهم الدولي للتطهير العرقي. وتلوح في الأفق معركة حتى الموت في الفاشر، وتلوح منها جميع أضواء التحذير الحمراء من الإبادة الجماعية.

عل مدار شهور، بقي متمردو دارفور السابقون خارج القتال، رغم الهجمات العنيفة على مجتمعاتهم. وفي منتصف نوفمبر فقط إذ حاصرت قوات الدعم السريع مدينة الفاشر ومن لجأوا إليها، أعلن المتمردون السابقون أنهم سيقاتلون الجماعة شبه العسكرية. وغالبا ما يكون المتمردون السابقون أفضل تسليحا وأشد تصميما من الجيش النظامي، لكن معركة تشارك فيها كل هذه القوات تهدد بالطبع بإراقة دماء جديدة المدنيين.

في الوقت نفسه، لم يتحقق غير القليل من وراء المحادثات المتقطعة التي عقدتها الولايات المتحدة وسعوديون طوال ستة أشهر في جدة بالمملكة العربية السعودية. وقد تمسّك جيش الجنرال البرهان بموقف مطالبة قوات الدعم السريع بالانسحاب إلى قواعدها ونزع سلاحها. ولا ترى قوات الدعم السريع بقيادة اللواء حمدان، التي تنتصر على الأرض في كل الجبهات، أي سبب للتراجع. ولم يتحقق الوفاء بأي وعد بوقف الأعمال العدائية أو حماية المدنيين أو السماح بدخول المساعدات الإنسانية، دون أي عواقب.

وهكذا يتجلى ازدراء قوات الدعم السريع الواضح للوسطاء، لدرجة شن هجومها المدمر على دارفور في أكتوبر، واثقة على ما يبدو من أنها في أسوأ الأحوال سوف تتلقى توبيخا هينا. وبالنسبة للقوات شبه العسكرية، كان النداء الذي وجهه وزير الخارجية أنطوني بلينكن في أوائل نوفمبر بعدم مهاجمة من لجأ من المواطنين إلى الفاشر محض كلمات جوفاء.

وحتى الآن، كانت استجابة إدارة بايدن للأزمة المتصاعدة غير كافية إلى حد كبير. وبرغم أن الإدارة ساعدت في عقد محادثات وقف إطلاق النار في جدة، وبرغم أن بلينكن نادى بضبط النفس، يبدو أن الأمرين كليهما لم يحدثا تأثيرا ملحوظا.

لكن بوسع الرئيس بايدن أن يتخذ إجراءات من شأنها أن تساعد على وقف المذبحة. من هذه الإجراءات أن يتصل بالداعمين العرب الذين يشحنون الأسلحة لقوات الدعم السريع بحسب وثائق صحيفة نيويورك تايمز. ولقد تغير مجرى المعركة بسبب تلك الأسلحة، التي ربما تشمل طائرات مسيرة استعملتها قوات الدعم السريع استعمالا تخريبيا إلى جانب شاحنات معدلة وسيارات دفع رباعي وصواريخ مضادة للطائرات مقدمة من روسيا، بما سمح للقوات شبه العسكرية بتركيز قوتها والتغلب على الجيش.

يجب أيضا أن يقوم الرئيس بايدن بتعيين مبعوث رئاسي خاص للسودان، إذ يرجح أن يستجيب له قادة الشرق الأوسط من أصحاب النفوذ أكثر من استجابتهم لمكتب الشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية، الذي يرونه صغيرا للغاية.

ويجب أيضا أن يدعم الرئيس بايدن كينيا. فالرئيس ويليام روتو حريص على لعب دور بناء في وقف هذه الأزمة. وفي شهر يونيو، قاد مجموعة رباعية من دول شرق أفريقيا لاقتراح نهج شامل للسلام. وأدان الرئيس روتو كلا الجنرالين السودانيين واصفا كليهما بأنهما «غير شرعيين»، وحذّر من وجود «علامات فعلية على حدوث إبادة جماعية» في دارفور، وقال: إنه قد تكون هناك حاجة إلى قوات حفظ سلام أفريقية.

عندما تقترح الدول الأفريقية صيغة لمعالجة أزمة أفريقية، غالبا ما تنحّي القوى العالمية خلافاتها وتدعمها. على النقيض من ذلك، من المؤكد أن أي اقتراح أمريكي بإرسال قوات الخوذات الزرقاء سيسفر عن فيتو من جانب الصين أو روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإذا ما قصرت واشنطن تركيزها على محادثات وقف إطلاق النار في جدة، فمن المؤكد تقريبا أن ذلك سيكون طريقا مسدودا. ومن خلال العمل مع مصر والمبعوث الخاص للأمم المتحدة المعين حديثا للسودان، يستطيع الرئيس روتو أن يقترح إجراءات لا تستطيع أمريكا أن تقترحها. وهو يسعى لعقد قمة طارئة لزعماء شرق أفريقيا الأسبوع المقبل، حيث ستسنح له الفرصة لتقديم مقترحات جريئة.

وفي غياب تحرك على أعلى المستويات، تخاطر أمريكا بالتحول إلى شاهد شبه صامت على إبادة جماعية أخرى. وبوسع الرئيس بايدن أن يغير ذلك. ولكن لم يتبق له سوى بضعة أيام لإجراء المكالمة.