على إسرائيل أن تختار: إما رفح أو الرياض

27 أبريل 2024
27 أبريل 2024

توماس فريدمان

ترجمة: أحمد شافعي

استقرت الدبلوماسية الأمريكية الرامية إلى إنهاء حرب غزة وصياغة علاقة جديدة مع السعودية خلال الأسابيع الأخيرة على خيار كبير واحد أمام إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتانياهو: ما الذي تريدونه أكثر من سواه: رفح أم الرياض؟

هل تريدون التصعيد إلى غزو كامل لرفح في محاولة للقضاء على حماس ـ لو أن هذا ممكن ـ دونما طرح أي استراتيجية إسرائيلية للخروج من غزة أو أي أفق سياسي لحل الدولتين مع الفلسطينيين ممن لا تقودهم حماس؟ لو أنكم ماضون في هذا الطريق، فإنه لن يفضي إلا إلى مضاعفة عزلة إسرائيل الدولية وفرض قطيعة حقيقية مع إدارة بايدن.

أم أنكم تريدون تطبيع العلاقات مع السعودية، وقوة لحفظ السلام في غزة، وتحالفا أمنيا بقيادة أمريكية ضد إيران؟ ولهذا أن يتحقق بثمن مختلف: هو التزام حكومتكم بالعمل من أجل دولة فلسطينية ترأسها سلطة فلسطينية تمَّ إصلاحها، لكن مع الانتفاع بدمج إسرائيل في أوسع تحالف أمريكي عربي إسرائيلي لم يسبق أن نعمت إسرائيل بمثله، وبناء أضخم جسر إلى بقية العالم الإسلامي لم يعرض له مثيل على إسرائيل من قبل، مع إيجاد ما لا يقل عن أمل في ألا يكون الصراع مع الفلسطينيين «حربا إلى الأبد».

وهذا من أشد الخيارات مصيرية التي تحتم على إسرائيل مواجهتها، والأمر الذي أجده مزعجا ومحبطا هو أنه ما من زعيم إسرائيلي كبير اليوم في الائتلاف الحاكم أو المعارضة أو الجيش ليساعد الإسرائيليين باستمرار على فهم ذلك الخيار ـ ما بين بلد منبوذ عالميا وشريك شرق أوسطي ـ أو يشرح لهم لماذا ينبغي أن تختار إسرائيل الثاني.

إنني أتفهم صدمة الإسرائيليين مما حدث في السابع من أكتوبر. ولا يفاجئني أن كثيرا من الناس هناك لا يريدون غير الانتقام، وأن قلوبهم قست إلى درجة تعجزهم عن الرؤية أو المبالاة بكل المدنيين ـ ومنهم آلاف الأطفال ـ الذين تعرضوا للقتل في غزة مع قيام إسرائيل بقلبها رأسا على عقب في محاولة للقضاء على حماس. وذلك كله تفاقم برفض حماس حتى الآن أن تطلق سراح بقية الرهائن.

لكن الانتقام ليس الاستراتيجية، وإنه لجنون محض أن تكون إسرائيل الآن في هذه الحرب منذ أكثر من ستة أشهر وأن تكون قيادة الجيش الإسرائيلي ـ والطبقة السياسية كلها تقريبا ـ قد سمحت لنتانياهو بمواصلة السعي إلى «الانتصار الشامل» هناك، فضلا عن احتمالية الغوص عما قريب في رفح، دون خطة خروج أو شريك عربي متأهب للتقدم فور انتهاء الحرب. وفي حال انتهاء إسرائيل إلى احتلال مفتوح لكل من غزة والضفة الغربية، فسوف يشكل هذا إنهاكا عسكريا واقتصاديا وأخلاقيا مميتا لن يسعد إلا أخطر خصوم إسرائيل، أي إيران، وينفِّر جميع حلفائها في الغرب والعالم العربي.

في وقت مبكر في الحرب، كان الزعماء الإسرائيليون من العسكريين والساسة يقولون إن الزعماء العرب المعتدلين يريدون أن تقوم إسرائيل بمحو حماس، إذا أمكن ذلك في غضون أسابيع قليلة مع قدر قليل من الخسائر بين المدنيين.

من الواضح الآن أن ذلك غير ممكن، وأن إطالة أمد الحرب ليست في مصلحة الدول العربية المعتدلة!

ترى وجهة النظر السعودية أن محو حماس «مرة وإلى الأبد» حلم مستحيل النوال.

هناك طريق آخر يمكن أن تسلكه إسرائيل الآن، يبدأ هذا الطريق الآخر بعدول إسرائيل عن أي غزو عسكري شامل لرفح التي تقع على الجانب الآخر مباشرة من الحدود مع مصر وتمثل المسار الأساسي لدخول الإغاثة الإنسانية إلى غزة بالشاحنات. ورفح موطن لمائتي ألف ساكن دائم وفيها الآن أيضا أكثر من مليون لاجئ من شمال غزة. وهي أيضا المكان الذي يقال إن كتائب حماس الأربع المتبقية تتحصن فيه ويحتمل أن يكون معها زعيمها يحيى السنوار.

وإدارة بايدن تقول لنتانياهو علنا إنه لا ينبغي أن ينخرط في غزو كامل لرفح دونما خطة مضمونة لإبعاد المليون مدني من الطريق، ولم يزل منتظرا أن تقدم إسرائيل هذه الخطة. لكن الإدارة تقول سرا لإسرائيل بمزيد من الوضوح: ما من غزو كبير، ولا مزيد.

قالها لي مسؤول أمريكي رفيع على النحو التالي: «نحن لا نقول لإسرائيل اسمحي بوجود حماس، إنما نقول إننا نعتقد بوجود طريق يمكن به الاقتصار على تعقب القيادة دونما إزالة لرفح حيا بعد حي». وأكد المسؤول أن إدارة بايدن لا تحاول إنقاذ قيادات حماس، وإنما أن تنجي غزة من المزيد من الخسائر المدنية الجماعية.

وأضاف المسؤول: علينا أن نتذكر أن إسرائيل ظنت أن قائد حماس كان في خان يونس فدمرت أغلب تلك البلدة بحثا عنه ولم تعثر عليه. وفعلت مثل ذلك في مدينة غزة في الشمال. فماذا جرى؟ مؤكد أن كثيرا من مقاتلي حماس هناك لقوا مصرعهم، ولكن كثيرين آخرين ذابوا في الركام وظهروا الآن مرة أخرى، لدرجة أن وحدة من حماس استطاعت في الثامن عشر من أبريل أن تطلق صاروخا من بيت لاهيا في شمالي غزة على مدينة أشكيلون الإسرائيلية.

المسؤولون الأمريكيون مقتنعون بأنه في حال قيام إسرائيل الآن بتدمير كامل رفح، بعد أن فعلت مثل ذلك في أقسام كبيرة من خان يونس ومدينة غزة، دون أن يكون لها شريك فلسطيني ذو مصداقية يمكن أن يحمل عنها عبء حكم غزة المدمرة، فإنها ترتكب مثل الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة في العراق فانتهت إلى التعامل مع تمرد دائم مضاف إلى أزمة إنسانية دائمة. مع فارق مهم: هو أن الولايات المتحدة قوة عظمى تستطيع أن تفشل في العراق وتعود إلى سابق عهدها. أما بالنسبة لإسرائيل فإن تمردا دائما في غزة سوف يعطل إسرائيل، وبخاصة بعد أن لم يبق لها من صديق.

ولذلك يقول لي المسؤولون الأمريكيون إنه في حال تصعيد إسرائيل إلى عملية عسكرية كبيرة في رفح، برغم اعتراضات الإدارة، فقد يفكر الرئيس بايدن في فرض قيود على مبيعات أسلحة معينة لإسرائيل.

وليس هذا فقط لأن إدارة بايدن تريد اجتناب مزيد من الخسائر بين المدنيين في غزة بسبب مخاوف إنسانية، أو لأنها سوف تؤدي إلى مزيد من التهاب الرأي العام العالمي ضد إسرائيل وتزيد من صعوبة الدفاع عن إسرائيل على فريق بايدن. وإنما لأن الإدارة تعتقد أن غزوا إسرائيليا كاملا لرفح سوف يدمر آفاق تبادل جديد للأسرى ـ ويقول المسؤولون إن ثمة الآن بصيص آمال جديدا في ذلك، كما سيدمر ثلاثة مشروعات حيوية تعمل الإدارة عليها منذ فترة لتعزيز أمن إسرائيل على المدى البعيد.

يتمثل الأول في قوة سلام عربية يمكن أن تحل محل القوات الإسرائيلية في غزة، فيتسنى لإسرائيل أن تخرج بدلا من أن تضطر إلى احتلال غزة والضفة الغربية إلى الأبد. والعديد من الدول العربية تتناقش منذ بعض الوقت في إرسال قوات حفظ سلام إلى غزة لتحل محل القوات الإسرائيلية التي سوف يتحتم خروجها ـ بفرض وجود وقف دائم لإطلاق النار ـ وسوف يحظى وجود القوات بمباركة رسمية تتمثل في قرار مشترك من منظمة التحرير الفلسطينية ـ وهي المظلة التي ينضوي تحتها أغلب الفصائل الفلسطينية ـ والسلطة الفلسطينية. والأرجح أن الدول العربية سوف تصر على بعض المساعدة العسكرية اللوجستية الأمريكية. لم يتقرر شيء من ذلك بعد، لكن الفكرة تخضع لدراسة نشطة.

المشروع الثاني هو صفقة أمنية دبلوماسية أمريكية سعودية إسرائيلية توشك الإدارة أن تنهي شرطها مع ولي العهد السعودي. ولهذه الاتفاقية عناصر عدة، ولكن العناصر الأمريكية السعودية الأساسية الثلاثة هي: (1) معاهدة دفاع مشترك بين الولايات المتحدة والسعودية تزيل أي غموض يتعلق بما قد تفعله أمريكا في حال تعرض السعودية لأي خطر إقليمي. ففي هذه الحالة سوف تدافع الولايات المتحدة عن الرياض والعكس صحيح. (2) تسهيل حصول السعودية على الأسلحة الأمريكية الأكثر تقدما. 3) اتفاق نووي مدني خاضع لرقابة مشددة من شأنه أن يسمح للمملكة العربية السعودية بإعادة معالجة رواسب اليورانيوم الخاصة بها لاستخدامها في مفاعلها النووي المدني.

في المقابل، تكبح السعودية الاستثمار الصيني داخل السعودية وكذلك أي روابط عسكرية وتقيم الجيل التالي من الأنظمة الدفاعية بأسلحة أمريكية فقط بما من شأنه أن يمثل دفعة لصناعات الدفاع الأمريكية ويجعل الجيشين تامي التوافق. وسوف يروق للسعودية ـ بما لديها من طاقة رخيصة ومساحة وافرة ـ أن تستضيف بعض مراكز معالجة البيانات الهائلة التي تطالب بها شركات التكنولوجيا الأمريكية لاستغلال الذكاء الاصطناعي ويزداد إنشاؤها في الوطن صعوبة على صعوبة. كما تقوم السعودية بالتطبيع مع إسرائيل، بفرض أن يلتزم نتانياهو بالعمل من أجل حل الدولتين مع سلطة فلسطينية تم إصلاحها.

وأخيرا تجمع الولايات المتحدة بين إسرائيل والسعودية ودول عربية معتدلة أخرى وحلفاء أوروبيين أساسيين في بنية أمنية متكاملة واحدة تضاد تهديدات الصواريخ الإيرانية على غرار ما فعلت حينما هاجمت إيران إسرائيل في الثالث عشر من أبريل انتقاما من ضرب إسرائيل لبعض كبار القادة العسكريين المشتبه في إدارتهم عمليات ضد إسرائيل وكانوا في اجتماع بمجمع دبلوماسي إيراني في سوريا. لن يجتمع هذا التحالف بأي صفة مستمرة ما لم تخرج إسرائيل من غزة وتلتزم بالعمل من أجل حل الدولتين. فلا يمكن لدولة عربية أن تظهر بمظهر الحامية الدائمة لإسرائيل من إيران في حين تقوم إسرائيل باحتلال دائم لغزة والضفة الغربية. ويعلم المسؤولون الأمريكيون والسعوديون أيضا أنه بدون إسرائيل في الصفقة، فإن عناصر الأمن الأمريكية السعودية لن تحظى على الأرجح بموافقة الكونجرس.

يريد فريق بايدن إكمال الشق الأمريكي السعودي من الاتفاقية بحيث يكون بمثابة حزب المعارضة الذي لا تملكه إسرائيل الآن ويتسنى له أن يقول لنتانياهو: سوف يذكرك التاريخ بأنك القائد الذي أشرف على أسوأ كارثة عسكرية لإسرائيل في السابع من أكتوبر أو القائد الذي قاد إسرائيل للخروج من غزة وفتح لها الطريق إلى التطبيع مع أهم دولة مسلمة. الخيار لك. ويريد الفريق أن يعرض هذا الخيار على الملأ بحيث يتسنى لكل إسرائيلي أن يراه.

واسمحوا لي أن أنتهي حيثما بدأت: مصالح إسرائيل بعيدة المدى موجودة في الرياض، لا في رفح. وبالطبع، ليس أي من الأمرين مضمونا، ولكليهما مخاطره. وأعلم أنه من غير السهل على الإسرائيليين أن يوازنوا بينهما في حين أن الكثير من المظاهرات العالمية في هذه الأيام تدين إسرائيل بسبب سوء سلوكها في غزة وتبرئ حماس. ولكن هنا يظهر معدن القادة: إذ يبينون أن الطريق إلى الرياض له نفع أكبر في النهاية من الطريق إلى رفح المسدود بكل ما للكلمة من معنى.

إنني أحترم تماما أن الإسرائيليين هم الذين سيتحملون عواقب الخيار. وكل ما أريده هو أن أتأكد من معرفتهم أن لديهم خيارا.

توماس فريدمان كاتب عمود رأي في الشأن الخارجي في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «الطريق من بيروت إلى القدس».