الشراكات الاستراتيجية التنموية

27 أبريل 2024
27 أبريل 2024

تسعى الدول جميعا إلى تعزيز شراكاتها الاستراتيجية إقليميا ودوليا، لما لها من أهمية في تحقيق الأهداف الوطنية التي ترتبط بالرؤى المحلية والتواصل والتفاعل مع دول العالم، ولهذا فإن إقامة تحالفات استراتيجية لا تُعزِّز مستقبل الدول ونموها الاقتصادي وحسب، بل أيضا تقوي قدرتها على مواجهة التحديات والعقبات التي تمر بها في ظل المتغيرات والتحولات المتسارعة التي يعاني منها العالم.

إن الشراكات الاستراتيجية تعتمد على تبادل المعارف والخبرات والموارد واستثمارها بما يُعزِّز التنمية المجتمعية بين البلدان، وبالتالي فإنها تشمل النهوض برأس المال البشري في كافة القطاعات خاصة في التعليم والتدريب والبحث العلمي والابتكار وبالتالي تُسهم في تطوير المهارات وتمكين القدرات، وتحسين مستوى رفاهية المجتمعات، بما تشكِّله من ازدهار على المستوى الاقتصادي والتحولات الاستثمارية التي يمكن تأسيسها، إضافة إلى تعزيز التنويع الاقتصادي والاستفادة القصوى من الموارد بين البلدان التي تعقد تلك الشراكات.

ولهذا فإن العالم يتوجَّه اليوم إلى عقد شراكات يمكن الاستفادة منها في التنمية المحلية، لما لها من قدرة في تسريع التقدُّم وتطوير البُنى الأساسية، والاستفادة من المعطيات التي توفرها المجتمعات، خاصة في مجال نقل التكنولوجيا وتطويرها، وتنمية البنية الأساسية الذكية وأنظمة البنية المستدامة، وتعزيز الطاقة المتجددة؛ حيث سيُسهم ذلك في تطوير الخدمات وتعزيز سوق الأعمال والابتكار، وبالتالي سيرفع من قدرة المجتمع على التقدم والنمو، وينمي القدرات الإنتاجية.

إن الشراكات في الأصل تقوم على بناء اجتماعي وثقافي قائم على الثقة والمصداقية وأواصر السلام والأمن بين البلدان، ولهذا فإن المجتمعات التي تعقد شراكات فيما بينها تعتمد أساسا على تلك المبادئ التي تؤهلها لتكون شريكة فيما بينها، فالعلاقة هنا تعاونية وتشاركية تعتمد على أصول التنمية وأخلاقيات العمل من ناحية، ومرجعيات اجتماعية وثقافية من ناحية أخرى، تشكِّل دعامة أساسية لبناء تلك الشراكات وتطويرها بما يُعزِّز التقدم في المجتمعات ويمكِّن أفرادها ويدعم قدراتهم ومهاراتهم.

فالشراكات الاستراتيجية تنبني على علاقات حضارية ذات أبعاد تاريخية تم بناؤها على مبادئ الاحترام والسلام والتفاهم، الأمر الذي يكشف قدرة الدول ذات الشراكات الواسعة على بناء مثل تلك العلاقات بما يعزِّز مكانتها بين الدول والمجتمعات. إنها تمتلك القوة الناعمة المتمثلة في الثقافة والحضارة ومبادئ السلام والأمان، وعلاقات التفاهم التي يمكن أن تفتح أبوابا من الشراكات الإيجابية الفاعلة، ضمن سياسات قائمة على التبادل بما يعزِّز المصالح المشتركة للمجتمعات الإنسانية.

ولأن سلطنة عمان واحدة من تلك الدول التي أرست مفاهيم القيم الإنسانية والسلام بين الأمم على مدى تاريخها الحضاري، حتى أصبحت أيقونة السلام بين العالم، ولأنها من الدول التي جمعتها بمجتمعات العالم صداقات وروابط أخوية تجلَّت من خلال مبادئها الثقافية وسياساتها، وحرصها على انفتاحها على الآخر، وبناء الثقة والمصداقية والشفافية في كل ما من شأنه تعزيز تلك المبادئ والسياسات، فإنها تُعدّ من تلك الدول التي تتمتع بشراكات استراتيجية واسعة سواء مع المنظمات والمؤسسات، أو مع دول العالم العربي والعالمي، الأمر الذي جعلها ذات قدرة على توسعة آفاق أعمالها ومشروعاتها التنموية.

لذا فإن الشراكات الاستراتيجية التي تؤسِّسها سلطنة عُمان خلال السنوات الأخيرة أو تطوِّر من أشكالها وتوسِّع من آفاقها، تهدف إلى تسريع التنمية والتقدم الاجتماعي وتحقيق الرفاه؛ ذلك لأن هذه الشراكات تقوم على أهداف اقتصادية وتعليمية وصحية وثقافية وغير ذلك من المجالات، إلاَّ أنها تظهر بشكل لافت في القطاع الاقتصادي واللوجستي بشكل خاص باعتبارهما من القطاعات الملموسة التي تعمل على توسعة سوق الأعمال وتطوير شبكات الخدمات والتوزيع وسلاسل التوريد، ونشر المعرفة والابتكار فيها، الأمر الذي يعني جذب أكبر للاستثمار وفرص أوفر لتطوير مهارات الشباب وقدراتهم.

إن الشراكات التي تسعى إليها سلطنة عُمان دوما هي تلك التي تُسهم في الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي، والتي تضمن تبادلا عادلا للمنافع بين البلدان. إنها شراكات ذات جدوى اقتصادية واجتماعية قادرة على تطوير البُنى الأساسية، وتضمن الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة وتطويرها بما يتناسب مع الأهداف الوطنية، فهذه الشراكات سواء أكانت إقليمية أو دولية تقدِّم مساحة واسعة من آفاق التعاون والتشارك، وتحفِّز على العمل المشترك النافع للمجتمعات، وبالتالي فإنها توفِّر إمكانات ضخمة للتحسين والتطوير.

لقد قدَّمت سلطنة عُمان خلال السنوات الأخيرة بشكل خاص مستويات عالية من الشراكات الاستراتيجية عزَّزت من خلالها دور القطاعات الحكومية وقدرتها على بناء تلك الشراكات التي تعزِّز من أدوار القطاعات الخاصة والمدنية، وتفعيل دورها التنموي ومساهمتها الفاعلة في تطوير عالم الأعمال، ولهذا سنجد أنه من خلال تلك الشراكات استطاعت العديد من الشركات بناء شراكات خاصة صناعية وتجارية ظهرت باعتبارها شريكا أساسيا في التنمية الاقتصادية، وبالتالي فإن فرصتها في الاستفادة من تلك الشراكات تقوم على فكر المشاركة والتعاون والبناء الوطني.

وعلى الرغم من أن سلطنة عُمان تربطها علاقات صداقة مع دول العالم أجمع، إلاَّ أن الحكومة جعلت من الأولويات الوطنية أساسا لتوسعة الشراكات الاستراتيجية وهدفا من أهدافها، ولهذا سنجد أن الزيارات التي قام بها جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- تنبثق من ذلك الأساس إضافة إلى الأسس السياسية والعلاقات التعاونية المشتركة بين سلطنة عمان وغيرها من الدول؛ لهذا فقد تمت خلال السنوات الأخيرة زيارات وشراكات مهمة على المستوى التنموي منذ زيارة جلالته -أعزَّه الله- إلى المملكة العربية السعودية في يوليو 2021، وإلى دولة قطر في نوفمبر 2021، وجمهورية ألمانيا في يوليو 2022، وإلى جمهورية مصر العربية في مايو 2023، وبعدها إلى جمهورية سنغافورة وجمهورية الهند في ديسمبر 2023، ثم زيارته -حفظه الله إلى دولة الإمارات العربية المتحدة خلال أبريل الحالي.

إن هذه الزيارات تمثِّل رؤية ثاقبة لمقتضيات المرحلة المقبلة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وهو أمر مهم في بناء الشراكات الاستراتيجية والأهداف التي تسعى إليها الدولة من تلك الشراكات، وما يعود منها على الوطن والمجتمع من فوائد جمة على المستوى التنموي، فهي شراكات ذات بُعد حضاري معرفي، وذات إمكانات واسعة يمكن الاستفادة منها خاصة على مستوى القطاع الخاص، وما يمكن أن يقدِّمه من تعاون وتشارك واستثمارات ستدعم مسيرة البناء وستُسهم في تسريعها من خلال فتح فرص جديدة لسوق الأعمال، وإنتاج توريدات مستدامة.

فالشراكات الاستراتيجية تتأسَّس وفق رؤى مستقبلية نابعة من الاحتياجات المجتمعية والأولويات الوطنية، ولهذا فإن دعم هذه الشراكات وتعزيز دورها، وإنجاح مساعيها يُعد واجبا وطنيا، لما لها من أهمية على مستوى التنمية المجتمعية والتقدم وتسريع البناء في كافة المجالات، إضافة إلى قدرتها على الاستفادة من الخبرات والمعارف والقوى العاملة الماهرة بين الدول بما يُعزِّز الكفاءات ويطوِّر مهارات الشباب.

إنها شراكات تؤسس لمستقبل أكثر ازدهارا ومجتمع أكثر رفاهية، ولشباب أكثر مهارة. إنها شراكات تبني تحالفات اقتصادية أكثر قدرة على الصمود في وجه المتغيرات والتحديات التي تواجه المجتمعات، من أجل غد أكثر أمانا واستدامة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة