البيئـة بوصفها سـؤالا وجوديّـا

29 نوفمبر 2023
29 نوفمبر 2023

ظلّت العقيدةُ الصّناعيّة - منذ نشأتها في القرن الثّامن عشر حتّى اليوم - تبرّر للإنسان جشعَـه واستغلالَه الوحشيّ للطّبيعة بدعوى أنّها مادّةٌ خامٌ لعِلْمه ولإرادة الإنتاج عنده، وأنّ الصّناعة قد تمدُّ الإنسان بما لم تستطع الطّبيعةُ أن تمدّه به، وأنّها وحدها تملك أن تستخرج من الثّروات والنّـفائس المخـبوءة في دفائن الأرض ما لا تجود به الطّبيعة عيانيّاً...إلخ، وأمثلة أخرى لهذه التّبريرات التي ما لبثت أن دخلت في صُلب المعتقد الصّناعـويّ الحديث بوصفها من يقينيّاته الأساس. والحقّ أنّ هذا الضّرب من التّبرير لاستغلال الطّبيعةِ وإِعمال أدوات الفتك التّكنولوجيّة بها لم يكن من نتائج ظهور الإيديولوجيا اللّيبراليّة على غيرها من اللّيبراليّات، ولا هو ارتبط بوعيٍ مسكون بِـنتائج العلم وفتوحاته، فقط، بل شارك في إشاعته بعضُ الوعي الدّينيّ المسيحيّ في أوروبا الذي ظلَّ حَمَلَـتُهُ من رجال الدّين يردّدون فكرةً - يتقاسمونَها واليهود والمسلمين - مفادها أنّ الله سخَّر الطّبيعةَ وما فيها لبني البشر بوصفهم ورثةً للأرض. هكذا اجتمع الوعيُ العلميّ والوعيُ الدّينيّ على أداء الرّسالة عينها: التّسويغ لعقيدة السّيطرة الآلية على الطّبيعة وكائناتها خدمةً لمصالح الرّأسمال.

ليس معنى هذا أنّ فعْـل الصّناعة كان وقْـفًا على ما يبرِّرُهُ ويُسـوِّغ له. لقد فرض نفسَه بقـوّة الأمر الواقع: بقـوّة الرّأسمال والطّبقات الاجتماعيّة الحادبـة على مصالحه. وإلى ذلك، كانتِ الفكرةُ اللّيبراليّة وحدها تكفي لِتُـشَرْعن الصّناعة في وعي النّاس: تحسين شروط عيشهم، وتوفير فرص العمل للملايين منهم، والقضاء على الأمراض والأوبئة الفتّاكة...إلخ. هكذا، شيئًا فشيئًا، ومع كلّ تقدُّمٍ تُحْرِزه الصّناعة في مجال تعظيم الخيرات، وتقريب المسافات، وتحسين شروط الوجود الإنسانيّ، والتّمدين والكَهْربـة والاستشفاء...، كانت فُرصُها في استمداد المشروعيّة تتعاظم، وصورتُها في عيون النّاس تَعْـظُم. لذلك، في الوُسع أن يقال إنّ الصّناعة، مثل السّياسة ومثل أي ظاهرة أخرى عمليّة، تَحْمل في جوفها إيديولوجياها، أي نظامَ تبريرها، أمّا ما فاض عن ذلك من ضروب التّبرير ووسائله فهو من النّوافل، وهو - على الأغـلب - من ملاحـقها الوظيفـيّة.

أَشْرعَ التّصنيعُ الباب أمام سيرورةٍ مديدة من نهب مكنونات الطّبيعة من ثرواتٍ كوّنتها الطّبيعةُ عبر عشرات ملايين السّنين. لم يكن هناك ما يبرِّر كلّ ذلك القَـدْر المَهُول من أفعالِ الاستنزاف، التي تعرّضت لها المواردُ الطّبيعيّة من خلال الصّناعة، سوى الجشع الذي ظلّ يسكن قوى الرّأسمال المتنافسة على تعظيم المصالح ومراكمة الثّروات؛ ولأنّ منطق المصالح الأنانيّة لهذه القوى - مثل منطقِ أيّ مصلحةٍ أخرى - منطقٌ أعمى لا يرى إلى ما بعد إشباع حاجته، فقد تجاهل مصالح الموجات القادمة من عشرات الأجيال من البشريّة التي لن يترك لها نهبُ الطّبيعة من مواردَ تعيش عليها، لأنّها لا تقع (= أي الأجيال القادمة) ضمن الأفق الذّهنيّ لقوى النّهب الأنانيّة؛ فهي تسرق مَن هُمْ يعيشون بِجِوارها في الحاضر، فكيف لا تسرق حقوق مَن سيعيشون في المستقبل؟! لا غرابة، إذن، إنْ كان النّهب الوحشيّ لموارد الطّبيعة، خلال مائة عام، قد جرّد الطّبيعة من أكثر مواردها النّـفيسة. هكذا وقَع سَطْوُ الرّأسمال، في مائة عام، على ما تكوَّن في الطّبيعة، جوفًا وسطحًا، لعشرات الملايين من السّنين من مواردَ غنيّة لا تتجدّد، ولا سبيل إلى الحصول عليها ثانيةً بعد نفادها... إلاّ بعد غزو كوكبٍ ثانٍ وسرقة ما فيه على منوال ما حصل في الأرض (ما الذي تعنيه الرّحلات المكوكيّة، اليوم، بل منذ ستينيّات القرن الماضي، إلى القمر ثمّ إلى كواكبَ أبعد سوى الرّغبة في استكشاف ما يَختزنه هذا العالم الخارجيّ من ثروات يمكن استغلالها في المستقبل؟).

ولا يشبه هذا النّهب الوحشيّ للطّبيعة ضراوةً سوى تدمير البيئة الطّبيعيّة بالصّناعة أيضًا! ما عادتِ المصانع الكبرى تكتفي بتلويث الهواء ومياه الأنْهُـر والبحار والمحيطات، وبالقضاء على بيئة الحياة المائيّة فقط؛ ولا اكتفى التّوسُّع التّمدينيّ السّرطانيّ الاستيطانيّ بجرْف الغابات - لأغراض استغلال أخشابها أو لاستغلال أراضيها في البناء - وبتدمير بيئة آلاف الأنواع الحيوانيّة والنّباتيّة والحكم عليها بالانقراض التّامّ أو التّدريجيّ فقط؛ ولا بحرمان الأرض من غطائها الغابويّ الذي ظلّ الرّئة التي تتنفّس منها كائناتُها وتعيش في أكنافها لملايين السّنين فقط؛ بل لقدِ اجتمعتْ كلُّ هذه الفاعليّات التّدميريّة الصّناعيّة لتُـنْجِب حالةً حادّة من الاختلال في التّوازن البيئيّ والطّبيعيّ، وها نحن نعاين كيف يقودنا جحيمُ الانبعاثات الحراريّة اليوميّ إلى تدمير الغشاء الجويّ للأرض (طبقة الأوزون)، مع ما يأتي في ركاب ذلك التّدمير من احْتِـرارٍ متزايد داخل الأرض يأتي على مناطق القطب الجليديّة بالذّوبان، فيتهدَّد بذلك وجودُ جزرٍ وبلدانٍ ستغمُرها المياه. وفوق ذلك، وقبله، ها نحن نعاين كيف تتواتر ظواهر الاضطراب في انتظام فصول العام ومواسم الإِمطار، وكيف تتأرجح الظّواهر تلك بين حدّين نقيضيْن: موجات الجفاف الحادّ والفيضانات الكارثـيّة!

هذا ما جَنَتْهُ العقيدةُ الصّناعيّة على البيئة والحياة والإنسان. لقد أدخلتْ مسألةَ البيئة في جملة أكبر المسائل الكونيّة الإشكاليّة بعد أن كانتِ البيئةُ ،قبلها، معطًى خارجيًّا طبيعيًّا. بل هي فعلت أكثر من ذلك بكثير: نقلتْ مسألة البيئة إلى مرتبة السّؤال الوجوديّ. خارج نطاق الاحتمال الفلكيّ بنهاية كوكب الأرض، أو نهاية الحياة داخل كوكب الأرض (بفعل اصطدامٍ بينها وجسمٍ فلكيّ خارجيّ)، كانت الحياةُ من بداهات الأرض التي يؤسِّسُها قيامُ شروطها الموضوعيّة. أمّا اليوم فَبَطَل أن يُرى إليها بوصفها من البَداهات؛ لأنّ أفعال التّدمير اليوميّ للبيئة لا تشهد لتلك البداهة ولا تقدّم عليها دليلًا، بل دليلُها الوحيد الذي تقدّمه هو أنّ الحياة تتّجه إلى أن تصبح إمكانًا مستحيلًا في المستقبل لارتفاع بيئتها: أي شروطها الموضوعيّة. وعليه، يغدو الوجود الإنسانيّ - ووجود الكائنات الحيّة - قـيْد احتمال الزّوال؛ لأنّه، بكلّ بساطة، وجود طبيعيّ و- بالتّالي- مشروط بسلامة بيئته الطّبيعيّة التي تمدّه بأسباب الحياة. بهذا المعنى نقول إنّ سؤال البيئة، اليوم، ســؤالٌ وجـوديّ.