الأبطال التافهون للحياة اليومية
قضيت صباحي وأنا أقرأ كيف أنه في يوم ما -حين كان صبيا- أدرك كارل أوفه كنوسغارد فقدان جوربه حين بدأ يرتدي ملابسه بعد حصة السباحة، امتدت قصة الجورب عبر ثماني عشرة صفحة طويلة! ما الذي جعلني أواصل قراءة هذا التفصيل التافه؟ ومن أين يأتي الإدمان على كنوسغارد؟ ما الذي يجعله مثيرا للاهتمام إلى هذا الحد؟ أحاول أن أُجيب اليوم على هذا السؤال، ليس لأي اعتبار سوى كوني قارئة مُحبة لسلسلة «كفاحي».
كنتُ في أحد الصباحات أجلس قبالة صديقة في صالتها مُنهمكتين في شيء لا أذكره تحديدا -لعلها القراءة، أو لعلها النمائم، لا يُهم- ما يُهم من أمر أن اتصالا وردها يدعوها للمشاركة في فعالية أدبية تنظمها السفارة السورية. تحججت الصديقة بانشغالها، واعتذرت عن المشاركة. بالطبع ما كانت لتُشارك لأن هذا يتعارض مع موقفها السياسي. لكني أسأل نفسي هل ترى هذه الصديقة (أو أي إنسان في مكانها) هذه الحلقة كأنها شيء حدث وانتهى، أم تراها ضمن سردية أوسع تنتصر لها، شيء من قبيل «وكانت رحمها الله ثابتة على مبادئها، وإن عنى هذا تضحيتها بفرص متاحة، وامتيازات محتملة».
يُمكن أن تُعدّ رواية «الوخز» (2005) لحسين العبري مهمة لأسباب تتعلق بموضوعها، أو قيمتها التاريخية، أو قيمتها الأدبية بالطبع. لكن ما أريد أن أتحدث عنه اليوم هو «فكرتها» هذه الكلمة التي يُحب حسين استخدامها. يقول «فكرة الرواية»، وهو حين يقول ذلك فإنه لا يتحدث عن موضوعها أو حبكتها أو أسلوبها (على الأقل، ليس كلًا على حدة وليس بجمعها معا)، بل عن ما يُمكن أن نُسميه لقاء الشكل بالمضمون. فإذا جئنا للحديث عن «فكرة» رواية الوخز، فيُمكننا أن نقول إنه عمل تأخذ الرواية الشخصية فيه مظهر القص الوثائقي أو بالأحرى التأبيني للحديث عن تجربة البطل مع جهاز الأمن. هنا يتجلى تماما لقاء الشكل بالمضمون، فلو لم تكن التجربة التي يقصها ذات طبيعة استثنائية (تجربة الاستدعاء والاستجواب)، ما كان أسلوب القص البطولي سيُلائمه، بعدها كان لزاما أن توازن البطولية بالهزل، وإلا ما كانت لتكون مُستساغة. وهكذا يخرج حسين بـ«فكرة» أي بصيغة ملائمة للموضوع الذي يُقدمه.
عودة للموضوع، أقول إن فكرة الرواية عظيمة لأنها تمس كل فرد فينا (كما أتخيل). ليس لأنها تتقاطع مع حيواتنا من حيث الموضوع بالضرورة، بل لأنها «[ت]نشئ وجودًا [يُمكن للقارئ أن] يرتبط به» كما يقول كنوسغارد، مُراهنة (الرواية أعني) على إمكانية أن تلمس ذلك الإحساس في دواخلنا والذي يقول لنا أننا أبطال قصتنا.
أضع هذه المقدمة الطويلة للقبض على أحد الدوافع النفسية الذي يُغرينا بقراءة السير الذاتية، أو اليوميات. أعني ذلك الإحساس الدفين بأننا نُريد -نحن أيضا- لسيرتنا أن تُكتب. غير أن فكرة أخرى تُعارض هذه الفكرة وتوجد بالموازاة معها، لصيقة بها على الدوام - وهي فكرة الجدارة. إننا نريد لسيرنا أن تُكتب، لكننا نعلم أيضا أنها لا تستحق أن تُكتب. بالطبع أنا لا أدعي أن هذا هو الدافع الوحيد، ولا حتى الأول لقراءة السير واليوميات، لكني أُشجعكم أن تروا معي هذا الدافع تحديدا لأنه قد يُساهم في فهم ولعنا بل وهوسنا بكارل أوفه كنوسغارد. ما يقوله كنوسغارد عبر ستة مجلدات إذا هو أن الحياة العادية بكل التوافه، والتي تتكرر في كل مكان ولحظة يُمكن أن يُحتفى بها أيضا. تراه عبر عشرات الصفحات يجري -بين أحذية الأطفال، وألعابهم، وزجاجات الحليب- يجهز أطفاله لأخذهم إلى الحضانة حتى يتسنى له بعدها قضاء بعض الساعات في الكتابة. تراه يُخطط لاحتفال رأس السنة وهو مراهق، أين يذهبون، كيف يحصلون على الشراب، ماذا لو قُبض عليهم - حفلة مراهقين في 50 صفحة. أو تراه -بعد أن خرج من حوض السباحة- ينتبه لفقدان جوربه، فيروح يبحث عنه كالمجنون في غرفة تبديل الملابس، المسابح، وحول البركة. وتشاركه فزعه -وهو يسير بلا جوارب في الشتاء النرويجي المُثلج- من أن يفطن والده لفقدانه الجورب حين يعود للبيت، وهو ما سيكون عقابه وخيما. تمتد قصة الجورب هذه عبر ثماني عشرة صفحة -كما قلتُ-، ولا تستطيع أن تترك الكتاب من يدك قبل أن تعرف أين ذهب الجورب اللعين، أو ماذا سيقول أبوه. كنوسغارد الذي تضج رواياته بابتذال الحياة المعاصرة، لا يفشل رغم ذلك في أن يحوز على انتباهك، بل ويتسبب في إدمانك لأعماله: «غير معقول! قرأتُ مائتي صفحة للتو، وأحتاج المجلد التالي» تقول زادي سميث.
يبدو أن «ساينفلد» وضع يده على الجرح المعاصر عندما قرر أن يشتغل على مسلسل عن لا شيء. هذا المسلسل الذي يُعد أيقونة في مسلسلات كوميديا الموقف sitcoms منذ ظهوره وحتى اليوم، يشترك مع سلسلة «كفاحي» لكنوسغارد في كون اليومي والعادي هو موضوعهما.
لطالما كان لدي نفور من الأحداث الكبرى في السرد لأنها لا تتقاطع مع حياتي. وأرى فيها رخصا أدبيا فبالنسبة لي تكمن الصعوبة في تحويل اليومي والعادي إلى تحفة. وحتى حين تحدث مصادفات لا تُصدّق في الحياة، لا يكون لها مكان في العمل السردي - تحديدا لأنها لا تُصدّق. يحزنني أن بعض أعمالي المفضلة تنقلب تراجيدية على نحو شبه مفتعل. وأشعر أن كنوسغارد قد انتقم لي (لنا) مهيئا الدرب لأعمال لا تخضع للضغط الذي يضعه الكتاب على عاتقهم بأن يُبهروا.
هل يمنحنا كنوسغارد الإثارة التي تمنحنا إياها مُتابعة حيوات الآخرين عبر الشبكات الاجتماعية -مثلا-، عبر برامج الواقع، أو حتى عبر السوالف والنمائم؟ أعني هل لفضولنا تجاه حياة الآخرين -باعتبار ذلك مصدرا لتحليل حيواتنا، ومعرفة أنفسنا- دور هنا؟ خصوصا نوع الاعترافات المخزية التي هي ثيمة حاضرة في هذه السلسلة - هذا جائز. لكن أظن أن ما يعلو به فوق هذا هو أنه يُقدم جوابا محتملا عن من نحن، وإن كُنا نتغير حين نكبر: هل أنا الشخص نفسه الذي كُنته وأنا صبي/ة؟ إننا نلمح عبر مراوحات كنوسغارد بين قصص الطفولة، الشباب والنضج - الإنسان نفسه، لكننا نراه يتغير أيضا. هناك من ينظر إلى حياته على أنها episodic أي حلقات متتابعة من الأحداث لا تجمعها سردية أشمل، وهم في الغالب لا يهتمون بتشريح ماضيهم. آخرون يبحثون عن سردية «تمنح معنى» للأحداث التي تبدو غير مترابطة. تبدو سلسلة «كفاحي» مادة ممتازة للتفكير حول هذا الموضوع. خصوصا أنه يُدرج قصصا فرعية لا علاقة لها بأي شيء يسبقها أو يلحقها، في تضاد مع التقليد الأدبي الذي يُوصي الكُتاب بأن يكون لكل عنصر وظيفة يؤديها في الحبكة العامة. هذا التحرر إذ يجعل العمل واقعيا وكأنه حياة مكتوبة كما تجري. نحن الذين نُقصّر في كتابة يومياتنا، ولا نضع اهتماما جادا لسرد سيرنا نجد أمامنا مادة صالحة لنتفكر في أسئلة كثيرة تشغلنا عن معنى الذات وإمكانية تغيرها. نُفكر أننا لو استطعنا تعلم دروس تخص كنوسغارد، فبإمكاننا إسقاط ما تعلمناه على حياتنا أيضا.
