إسرائيل والسعودية تتبادلان الأماكن

04 مايو 2024
04 مايو 2024

ترجمة: أحمد شافعي -

السعودية وإسرائيل أهم حليفين لأمريكا في الشرق الأوسط، وإدارة بايدن مشتركة بعمق مع كلتيهما اليوم في محاولة لصوغ اتفاقية دفاع مشترك مع السعودية ومساعدة إسرائيل في صراعيها مع حماس وإيران. لكن فريق بايدن يواجه موقفًا غير مسبوق مع هذين الشريكين القديمين تنشأ عنه فرصة هائلة وخطر هائل بالنسبة لأمريكا. وينجم كلا الفرصة والخطر عن تناقض السعودية وإسرائيل في سياساتهما الداخلية.

والأمر بصراحة يتمثل في أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد زج بأسوأ متطرفي بلده الدينيين في السجن، بينما وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أسوأ متطرفي بلده الدينيين في مجلسه الوزاري.

وها هنا حكاية.

لقد أطلق محمد بن سلمان -بتركيزه البالغ على النمو الاقتصادي بعد عقود عديدة وصف المملكة العربية السعودية بأنها كانت خلالها في «سبات»- شرارة أهم ثورة اجتماعية شهدتها المملكة على الإطلاق، وهي ثورة تسري موجات صدمتها في أرجاء العالم العربي. وقد بلغت حد أن الولايات المتحدة والسعودية الآن تضعان اللمسات الأخيرة على تحالف رسمي قادر على أن يعزل إيران ويلجم نفوذ الصين في الشرق الأوسط ويلهم سلميا بتغيير في هذه المنطقة يتجاوز أثره الإيجابي أي أثر لغزو الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان عسكريا. فعل محمد بن سلمان ما لم يجرؤ أي من أسلافه على عمله، بكسره القبضة الشديدة التي فرضها الإسلاميون المحافظون المتشددون على السياسة السعودية الاجتماعية والدينية منذ عام 1979. وقد ثبت أن لهذا التحول شعبية كبيرة بين الكثير للغاية من نساء السعودية وشبابها فقفزت مشاركة النساء في قوة العمل إلى 35% بعد أن كانت 20% في ما بين 2018 و2022 وفقًا لتقرير المجلس الأطلنطي، بل إنها ارتفعت اليوم عن تلك النسبة.

ويعد هذا من أسرع التغيرات الاجتماعية في أي مكان في العالم. وإنكم لترون أثر هذا في شوارع مدينة الرياض اليوم، ومقاهيها، ومكاتب الحكومات والشركات. فلا يقتصر الأمر على أن السعوديات يقدن السيارات، ولكنهن يقدن التغيير، في السلك الدبلوماسي، وفي أكبر البنوك وفي دوري الكرة النسائية السعودي الجديد لكرة القدم. ولا تتجلى رؤية محمد بن سلمان الجديدة لبلده في مجال أكثر مما تتجلى في عزمه المعلن على تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدولة اليهودية ضمن معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة.

فولي العهد يرغب في منطقة مسالمة إلى أبعد مدى ممكن، ويريد للسعودية أن تأمن إيران بأكبر قدر ممكن، حتى يستطيع أن يركز على تحويل السعودية إلى قوة اقتصادية متنوعة الأنشطة.

وكذلك كانت إسرائيل أيضا ذات يوم. ومن أسف أن مأساة إسرائيل في ظل حكم نتانياهو تتمثل في أنه أنشأ -بسبب رغبته الجارفة في نيل السلطة والتشبث فيها اجتنابًا لحبس محتمل في اتهامات بالفساد- ائتلافا حاكما منح سلطة غير مسبوقة لاثنين من العنصريين المتطرفين اليمينيين اليهود في ثلاث وزارات هي الدفاع والمالية والأمن الوطني وجعل الأولوية للقيام بانقلاب قضائي على أي شيء آخر. كما قدم نتانياهو تنازلات غير مسبوقة للحاخامات الأرثوذكس المتشددين محوِّلا أموالا طائلة إلى مدارسهم التي لا تقوم في كثير من الأحيان بتدريس الرياضيات أو الإنجليزية أو التربية المدنية ويرفض كثير من خريجيها الشباب الخدمة في الجيش نهائيا، ناهيكم عن الخدمة فيه بجانب النساء.

والسعودية بطبيعة الحال ملكية مطلقة وإسرائيل بلد «ديمقراطي». فبوسع محمد بن سلمان أن يفرض تغييرات لا يملك فرضها أي رئيس وزراء إسرائيلي. ولكن على القادة في كلا البلدين أن يقيسا ما سوف يمكنهم من البقاء في السلطة، وهذه الغرائز هي التي تدفع نتانياهو إلى أن يجعل إسرائيل تشبه أسوأ ما في السعودية القديمة وتدفع محمد بن سلمان إلى أن يجعل السعودية تشبه أفضل ما كان في إسرائيل القديمة.

ونتيجة تحالف نتانياهو مع اليمين المتطرف هي أن إسرائيل لا تستطيع الانتفاع من التحول الهائل الذي جرى في السعودية، باقتراحها تطبيع العلاقات مع الدولة اليهودية وفتح الطريق لإسرائيل نحو بقية العالم الإسلامي، لأن القيام بذلك يقتضي من إسرائيل السعي إلى طريق مع الفلسطينيين لإنشاء دولتين لشعبين أصليين.

فضلًا عن أنه دونما عرض أفق ما لحل الدولتين مع الفلسطينيين من غير حماس، لا يكون بوسع إسرائيل أن تصوغ تحالفًا أمنيًا دائمًا مع دول عربية معتدلة ساعدت في صد وابل من أكثر من ثلاثمائة مسيّرة وصاروخ أطلقتها إيران على إسرائيل في الثالث عشر من أبريل ردا على قتل إسرائيل قائدًا عسكريًا إيرانيًا رفيعًا وبعض رجاله في سوريا. إذ لا تملك هذه الدول العربية أن تبدو كمن تدافع عن إسرائيل إلى الأبد في حال تقاعس إسرائيل عن إيجاد شركاء فلسطينيين معتدلين يحلون محل سيطرتها على غزة والضفة الغربية.

بعبارة أخرى، إسرائيل اليوم لا تستطيع إقامة التحالفات التي تحتاج إليها لتزدهر كأمة، لأن ذلك سوف يفضي إلى تفكك الائتلاف الحاكم الذي يحتاج إليه نتانياهو ليزدهر كسياسي.

كل هذا يتسبب في صداع هائل للرئيس بايدن الذي فعل من أجل إنقاذ إسرائيل من حماس وإيران ما لم يفعل مثله أي رئيس أمريكي آخر، فلم يلق غير الإحباط من رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي ينصب أكبر اهتمامه على إنقاذ نفسه. ودعم بايدن لنتانياهو اليوم يكلفه سياسيًا ويحد من قدرته على الانتفاع الكامل من التغيرات التي جرت في السعودية. وقد يكلفه فرصة إعادة انتخابه.

ومنذ أن بدأ محمد بن سلمان السيطرة على صنع القرار السعودي سنة 2016، تحولت السعودية بشكل أساسي إلى قاعدة للذكاء الاصطناعي.

واقع الأمر أن مشاكل كثيرة تقوم اليوم بين أكثر زعيمين في المنطقة تبنيًا للعقلية الإصلاحية وهما محمد بن سلمان ومحمد بن زايد حاكم الإمارات العربية المتحدة. ولكنها مشكلات حميدة. إذ تتعلق بتنافس محتدم على من يكون الأسرع والأعمق تشاركا مع أهم الشركات العالمية التي تقود الذكاء الاصطناعي.

ومثلما ذكرت أهم الصحف الإماراتية (ذي ناشونال) يوم الثلاثاء: «في أعقاب استثمار شركة ميكروسوفت 1.5 مليار دولار في شركة أبوظبي للذكاء الاصطناعي والخدمات السحابية (جي 42)، ينصب الضوء الآن على مكانة الشرق الأوسط المتنامية بوصفه دافعا إقليميا لتكنولوجيا عالمية. وقد اجتذبت هذه الطاقة ـ بقيادة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ـ اهتمام أمثال أوراكل وجوجل وأمازون بما يبرز ثقة المستثمرين المتنامية في المنطقة، والدعم المالي المتزايد والعلاقات بالغرب».

لا مجال للتقليل من أهمية وجود قدوة حسنة قريبة. فعندما أعلن محمد بن سلمان في عام 2018 أن للنساء السعوديات أن يحضرن الفعاليات الرياضية من قبيل مباريات كرة القدم للرجال، طلبت النساء الإيرانيات مثل ذلك من آيات الله. واضطر آيات الله إلى التراجع بعد وفاة امرأة في التاسعة والعشرين من العمر وهي تحاول حضور مباراة كرة قدم للرجال في سبتمبر 2019 بعد أن أحرقت نفسها.

ومثلما قال لي مسؤول سعودي شاب أخيرا فإن محمد بن سلمان تمكن من تهميش المتطرفين الدينيين في السعودية بدون إشعال حرب أهلية، وبإطلاق كل الطاقة المكبوتة لدى الشباب السعوديين الذين أرادوا تحقيق إمكاناتهم بالاتصال مع أحدث الاتجاهات العالمية. فنجح أولئك الشباب في سحق مقاومة 30% من السعوديين الذين أصفهم بالمحافظين المفرطين. إيران في المقابل أطلقت العنان لكامل قسوة سلطاتها الدينية كي تكبت الشباب الإيرانيين الذين مضوا في مواجهة مع النظام الحاكم في سبتمبر 2022 بعد وفاة امرأة إيرانية تدعى مهسا أميني كانت الشرطة تحتجزها، ويقال إنها اعتقلت لعدم سترها جسمها بالشكل الواجب في مكان عام.

ولهذا السبب ترون مشاهد من قبيل رفض طلبة جامعيين إيرانيين دوس أعلام أمريكية وإسرائيلية رسمها علماء دين على الأرض عند مداخل كلياتهم، أو إطلاق الصيحات والأبواق في أبريل في مباراة لكرة القدم عندما طالب النظام الحاكم بلحظة صمت حدادا على مقتل قادة عسكريين على يد إسرائيل.

وهذه مقابلة صارخة مع تظاهر طلبة جامعيين أمريكيين الآن يرون إسرائيل معتدية «استعمارية» ويقبلون بحماس، برغم قيامها باغتيال واختطاف إسرائيليين في السابع من أكتوبر، مثيرة بذلك -وبلا مبالاة ظاهرة- قصفًا إسرائيليًا هائلًا أدى إلى مصرع عشرات آلاف المدنيين من أبناء غزة من بينهم آلاف الأطفال.

السؤال الأساسي المطروح على إدارة بايدن والسعوديين اليوم هو هذا: ما العمل القادم؟ الخبر الجيد هو أنهم انتهوا من 90% من المعاهدة الدفاعية المشتركة التي وضعوها، حسبما يخبرني الجانبان. لكنهم لا يزالون بحاجة إلى إحكام بعض النقاط الرئيسية. وتتضمن هذه النقاط طرقا دقيقة تسيطر بها الولايات المتحدة على برنامج الطاقة النووية المدني الذي ستحصل عليه السعودية بموجب الاتفاقية، وهل سيكون عنصر الدفاع المشترك واضحا كالقائم بين الولايات المتحدة واليابان أم أقل رسمية وشبيها بالتفاهم بين الولايات المتحدة وتايوان، والالتزام بعيد المدى من السعودية بالاستمرار في تسعير النفط بالدولار الأمريكي وعدم الانتقال إلى العملة الصينية.

لكن القسم الآخر في الاتفاقية، الذي يعد حاسمًا لنيل تأييد الكونجرس لها، هو أن تقوم السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وسوف يحدث هذا في حال موافقة إسرائيل على شروط الرياض وهي: الخروج من غزة، وتجميد إقامة المستوطنات في الضفة الغربية، والشروع في طريق مدته ما بين ثلاث سنوات وخمس لإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة. وتلك الدولة أيضا مشروطة بإجراء السلطة الفلسطينية إصلاحات تجعلها كيانا حاكما يثق فيه الفلسطينيون ويرونه شرعيا ويراه الإسرائيليون فعالا.

ثمة كثير من الاحتمالات والافتراضات في هذه المعادلة التي تبدو اليوم بعيدة الاحتمال. ولكنها قد تبدو أقل بنهاية حرب غزة وإحصاء الإسرائيليين والفلسطينيين للتكاليف الرهيبة التي يدفعونها لعدم توصلهم إلى حل سلمي دائم وتفكيرهم في ما لو أنهم يريدون المزيد مما نالوا أم الانتقال عن ذلك كله انتقالا راديكاليا.

من الواضح للمسؤولين الأمريكيين والسعوديين أنه بانضمام نتانياهو إلى اليمين المتطرف ضمانًا للبقاء في السلطة، فمن المستبعد كثيرًا أن يوافق على أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية يجعل شركاءه يطيحون به، ما لم تستوجب نجاته السياسية غير ذلك. ونتيجة لذلك، يدرس الأمريكيون والسعوديون إنهاء الصفقة والمضي بها إلى الكونجرس مع شرط بتطبيع السعودية للعلاقات مع إسرائيل في حال توافر حكومة في إسرائيل مستعدة للوفاء بالشروط الأمريكية.

ولكن لم يتم اتخاذ قرار بعد. ويعلم المسؤولون الأمريكيون إن إسرائيل اليوم في اضطراب كبير، والعالم كله يبدو منقلبا عليها، ومن ثم يستحيل حمل الإسرائيليين على النظر في منافع سياسية واقتصادية بعيدة المدى من جراء التطبيع مع السعودية أهم دولة إسلامية وعربية في العالم.

غير أن المرجو في حال التوصل إلى نهاية دائمة للقتال ورجوع جميع الرهائن الإسرائيليين، أن تجري إسرائيل انتخابات جديدة. وحينئذ، ربما، وفقط ربما، يكون الخيار المطروح على الطاولة أمام الإسرائيليين لا بين بيبي وشبيه لبيبي، وإنما بين بيبي وطريق سلام ذي مصداقية مع السعودية والفلسطينيين.

توماس فريدمان كاتب عمود في الشأن الخارجي في نيويورك تايمز ومؤلف كاتب «من بيروت إلى القدس».

خدمة نيويورك تايمز