إسرائيل التي عرفناها انتهت
ترجمة: أحمد شافعي -
تخيل أن تستيقظ ذات صباح بعد انتخابات 2024 الرئاسية لتجد أن دونالد ترامب قد أعيد انتخابه واختار رودي جولياني نائبا عاما، ومايكل فلين وزيرا للدفاع، وستيف بانون وزيرا للتجارة، والزعيم الإنجيلي جيمس دوبسون وزيرا للتعليم، وإنريك تاريو الزعيم السابق لمنظمة "براود بويز" [اليمينية المتطرفة] رئيسا للأمن الوطني ومارجوري تيلور جرين متحدثة باسم البيت الأبيض.
لعلكم قائلون "مستحيل". وإذن، عليكم أن تفكروا مرة أخرى.
كنت قد قلت من قبل إن الاتجاهات السياسية في إسرائيل كثيرا ما تكون مؤشرات إلى اتجاهات أوسع في البلاد الديمقراطية الغربية ـ فهي عروض من خارج مسارح برودواي تقام على مسارحنا في برودواي. وكنت أرجو لحكومة الوحدة الوطنية التي وصلت إلى السلطة في إسرائيل في يونيو من عام 2021 أن تكون هي الأخرى بشيرا بمزيد من التوافق الحزبي هنا. لكن من المؤسف أن تلك الحكومة الآن قد انهارت ويحل محلها أشد الائتلافات الحاكمة يمينية في تاريخ إسرائيل. فلينجنا الله إن كان هذا نذيرا بما ينتظرنا نحن.
الائتلاف الذي يقوده زعيم الليكود نتانياهو عائدا به إلى السلطة هو المعادل الإسرائيلي لمجلس الوزراء الكابوسي الذي تخيلته في السطور السابقة. لا فارق إلا أنه حقيقي، تحالف خصامي مؤلف من زعامات أرثوذكسية متشددة وساسة قوميين متطرفين، منهم بعض العنصريين السافرين وبعض المتطرفين اليهود المناهضين للعرب الذين كانوا يعدون ذات يوم خارجين تماما على الأعراف والحدود في السياسة الإسرائيلية. وفي حين أنه يكاد يستحيل على نتانياهو أن يقيم تحالف أغلبية دونما دعم من هؤلاء المتطرفين، فيكاد يكون في حكم المؤكد أن بعض هؤلاء سوف يكونون وزراء في الحكومة الإسرائيلية القادمة.
ومع تحقق هذا الواقع الذي كان من قبل عصيا على الخيال، ثمة سؤال أساسي سوف يعكر صفو رواد معابد اليهود في أمريكا والعالم: "هل عليّ أن أدعم إسرائيل هذه أم لا؟". سؤال سوف يستولي على الطلبة المناصرين لإسرائيل في الكليات والجامعات. وسوف يتحدى حلفاء إسرائيل العرب بموجب الاتفاقات الإبراهيمية ممن لم يريدو إلا التبادل التجاري مع إسرائيل ولم يوقعوا قط ما يوجب عليهم الدفاع عن حكومة فيها تعادي عرب إسرائيل. سؤال سوف يؤدي إلى توتر الدبلوماسيين الأمريكيين الذين كانوا يدافعون آليا عن إسرائيل بوصفها بلدا ديمقراطيا يهوديا له مثل قيم أمريكا، وسيجعل أصدقاء إسرائيل في الكونجرس يفرون فرارا من أي صحفي يسأل عما لو أن أمريكا يجب أن تستمر في إرسال مليارات الدولارات دعما لحكومة تتحرك بوازع ديني متطرف.
هذا أمر لم تروه من قبل، لأنكم لم تروا من قبل زعيما إسرائيليا "يبلغ مثل هذا المدى".
لقد وصل نتانياهو إلى السلطة بدعم من رفاق يرون مواطني عرب إسرائيل طابورا خامسا لا يمكن الوثوق فيهم، رفاق تعهدوا بالسيطرة السياسية على التعيينات القضائية، رفاق يؤمنون أنه لا بد من توسيع المستوطنات اليهودية بحيث لا يبقى شبر واحد في الضفة الغربية لدولة فلسطينية، رفاق يريدون تفعيل تغييرات قضائية من شأنها تجميد محاكمة نتانياهو الجارية في اتهامات بالفساد، رفاق يعربون عن احتقارهم لاحتضان إسرائيل العريق لحقوق المثليين.
ونحن هنا نتكلم عن أشخاص من عينة إتمار بن جيفر الذي أدانته محكمة إسرائيلية في عام 2007 بالتحريض على العنصرية ودعم منظمة إرهابية يهودية. ولقد أقام نتانياهو شخصيا تحالفا بين حزب "القوة اليهودية" الذي يتزعمه بن جفير وبتسلئيل سموتريتش زعيم حزب "الصهيونية الدينية" فجعل منهما "أمام صدمة كثير من الإسرائيليين" ثالث أضخم حزب في البلد، ووفر لنتانياهو الحلفاء الذين كان الليكود بحاجة إليهم للفوز بالأغلبية البرلمانية في انتخابات الأسبوع الماضي.
سموتريتش معروف بأمور كثيرة منها اقتراحه بضرورة الفصل بين الأمهات الإسرائيليات والأمهات العرب في عنابر الولادة بالمستشفيات الإسرائيلية. كما أنه مناصر سافر وقديم لاحتلال إسرائيل الضفة الغربية وقال إنه لا وجود "لشيء اسمه الإرهاب اليهودي" عندما يتعلق الأمر بانتقام المستوطنين من العنف الفلسطيني.
لقد سعى نتانياهو سعيا متزايدا على مدار السنين إلى الاستفادة من طاقة هذه الفئة الانتخابية الإسرائيلية المناهضة لليبرالية ليفوز بالحكم، وذلك غير بعيد عن استعمال ترامب للقومية البيضاء، ولكن نتانياهو لم يقم قط فعليا بإدخال هذا العنصر الراديكالي ـ من قبيل بن جيفر الذي يزعم أنه معتدل لأنه طلب من أنصاره أن يهتفوا "الموت للإرهابيين" بدلا من هتافهم "الموت للعرب" ـ في فصيله الحاكم أو مجلسه الوزاري. ومع انشقاق المزيد من حلفاء نتانياهو في الليكود وانصرافهم عنه بسبب سلوكه الجنائي وكذبه المزعوم، فقد اضطر نتنياهو إلى المضي بعيدا عن متن السياسة الإسرائيلية ليحصل على ما يكفي من الأصوات للحكم وتمرير قانون بإجهاض محاكمته ومنع حبسه المحتمل.
لقد كانت لدى نتانياهو أرض سياسية خصبة للعمل مثلما أوضح لي ناحوم برنيع الكاتب في صحيفة يديعوت أحرونوت. إذ كان هناك تصاعد دراماتيكي في العنف ـ من طعن وإطلاق رصاص وحرب عصابات وجريمة منظمة ـ من عرب إسرائيل ضد عرب إسرائيل، ومن عصابات من عرب إسرائيل وجريمة منظمة ضد يهود إسرائيليين وبخاصة في الأحياء المختلطة. والنتيجة هي أنه "كما في أمريكا، أصبح ’العمل الشرطي’ قضية ضخمة في إسرائيل في السنوات الأخيرة" حسبما قال برنيع، ومع أن هذه الموجة بدأت حينما كان نتانياهو رئيسا للوزراء، وألقى هو وحلفاؤه المعادون للعرب اللوم على العرب وعلى حكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية.
لقد لخصت لوحة إعلانية انتخابية حملة نتانياهو. فقد كانت ـ بحسب تقرير عاموس حاريل في هاآرتس ـ "مقبضة الشكل لا تحمل غير كلمات قليلة: هذه هي المسألة: اكتفينا" وتصور كلا من رئيس الوزراء منتهي الولاية يائير لابيد وشريكه الائتلافي منصور عباس من القائمة العربية.
وعباس هو زعيم حزب عرب إسرائيل الديني المذهل الذي يعترف بدولة إسرائيل وبالأهمية الشديدة للهولوكوست، والذي كان جزءا من حكومة الوحدة الوطنية التي سقطت الآن.
مثلما قال حاريل: "يبدو أن الرسالة الضمنية في ’اكتفينا’ مفهومة بين أنصار الليكود و(الصهيونية الدينية) والأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة. ويحتمل أن تكون هذه الرسالة قد ساعدت نتانياهو أيضا على الفوز بانتخابات الثلاثاء". وكتب حاريل أنه من العوامل الحاسمة أيضا عامل "كراهية العرب والرغبة في إبعادهم عن مراكز السلطة".
ولكن نتانياهو لقي دعما أيضا من حقيقة أنه في حين أن اليمين واليمين المتطرف اكتسبا طاقة كبيرة من تنامي المخاوف من العرب وعدم الثقة فيهم ـ سواء أكانوا من عرب إسرائيل أم من فلسطينيي الضفة الغربية ـ فإن خصومهم في الوسط ويسار الوسط لم يوجهوا رسالة مضادة متماسكة أو ملهمة.
ومثلما قالها لي برنيع "إسرائيل ليست منقسمة في المنتصف" حيث 50% مناصرون لنتانياهو و50% لهم رسالة واستراتيجية موحدة ضده. "لا. إسرائيل منقسمة بين 50% مع نتانياهو، و50% مع عرقلة نتانياهو، وذلك كل ما يمكنهم الاتفاق عليه" كما قال برنيع. وقد ظهر هذا في هذه الانتخابات. ولم يكن كافيا.
لماذا يعد هذا خطرا كبيرا؟ ذلك ما وضع موشيه هالبيرتال ـ أستاذ الفلسفة بالجامعة اليهودية ـ يده عليه: على مدار عقود، يؤمن أعضاء اليمين الإسرائيلي، وأغلبية شاسعة منهم "صقور أمنيون"، أن الفلسطينيين لم يقبلوا ولن يقبلوا دولة يهودية بجوارهم ولذلك فعلى إسرائيل أن تتخذ كل السبل العسكرية اللازمة لحماية نفسها منهم.
ولكن سياسات إسرائيل الصقرية تجاه الفلسطينيين مثلما أوضح هالبيرتال "تصفو الآن إلى شيء جديد، هو لون من القومية المفرطة" التي لا تكتفي برفض أي فكرة لدولة فلسطينية وإنما ترى أيضا كل فرد من عرب إسرائيل ـ الذين يمثلون 21% من سكان إسرائيل، وتقريبا 20% من أطبائها، وقرابة 25% من ممرضاتها، وتقريبا نصف صيادلتها ـ إرهابيا محتملا.
قال هالبيرتال إن "ما نشهده هو تحول في اليمين الصقري من كونه هوية سياسية قائمة على التركيز على ’العدو الخارجي’ ـ أي الفلسطينيين ـ إلى ’العدو الداخلي’ أي عرب إسرائيل".
كما هاجم ائتلاف نتانياهو مؤسسات مستقلة حيوية تقوم عليها ديمقراطية إسرائيل وهي مسؤولة عن حماية حقوق الأقلية ضمن مسؤوليات أخرى، أي نظام المحاكم الدنيا، والإعلام، وفوق ذلك كله المحكمة العيا التي يريد نتانياهو وحلفاؤه أن يخضعوها لسيطرة اليمين السياسية "وذلك تحديدا لكي لا تحمي حقوق الأقليات" بالحماس والحجم الذي تحميها به حسبما قال هاليبرتال.
في الوقت نفسه، ليست هذه الانتخابات محض صراع على مستقبل إسرائيل، كما قال، ولكنها أيضا "على مستقبل يهودية إسرائيل. فالتوراة تناصر التساوي بين الناس جميعا وتناصر فكرة أننا جميعا مخلوقون على صورة الرب. ويجب على الإسرائيليين من بين شعوب الدنيا جميعا أن يحترموا حقوق الأقلية لأننا ـ نحن اليهود ـ نعرف معنى الانتماء إلى أقلية" ذات حقوق أو محرومة الحقوق. قال هالبيرتال إن "هذه أخلاقيات يهودية عميقة، وهي الآن تواجه تحديا من داخل إسرائيل ذاتها. لكن، عند تعرض الشارع لهذه التهديدات الأمنية الداخلية العميقة كل يوم، يسهل كثيرا على تلك الأيديولوجيات القبيحة أن تدعم وجودها".
سيكون لهذا أثر عميق على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. ولكن لا تعولوا في هذا على تقديري أنا. ففي الأول من أكتوبر نشرت آكسيوس موضوعا نقلت فيه عن مصادر كلاما قاله بوب ميندينيث السناتور الديمقراطي عن نيوجيرسي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية لنتانياهو خلال رحلة إلى إسرائيل في سبتمبر. فقد حذر السناتور، على حد تعبير أحد المصادر، من أنه إذا قام نتانياهو بتشكيل حكومة إثر انتخابات الأول من نوفمبر احتوت متطرفين من اليمين المتطرف فقد "ينال هذا نيلا خطيرا من دعم الحزبين في واشنطن".
وهذا ما يوشك على الحدوث.
لقد راسلت هذه الصحيفة من إسرائيل لقرابة أربعين سنة، وكثيرا ما أسافر برفقة صديقي العزيز ناحوم برنيع وهو أحد أكثر الصحفيين في البلد احتراما واتزانا وحرصا واعتدالا. وحين أسمعه يقول قبل دقائق قليلة على الهاتف "إن لدينا الآن إسرائيل من نوع مختلف" فإنني أعرف بهذا أننا ندخل بحق إلى نفق مظلم.
• توماس فريدمان كاتب عمود في السياسة الخارجية في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب "
** "خدمة نيويورك تايمز" ترجمة خاصة بجريدة "عمان"
