أزمة المفاهيم والاختلاف حولها

12 مايو 2021
12 مايو 2021

عبد الله العليان -

لا تزال إشكالية المفاهيم الفكرية والفلسفية التي يتم التلاعب بمضامينها، وفق التوجهات الفكرية والفلسفية ليتم تغييرها أو تحويرها لتتفق مع هذه الأفكار أو تلك، وقد يمكن تلبيسها بآراء قد لا تكون دقيقة تتفق مع مضامينها، بما حددته في الأصل تلك الأفكار أو الفلسفات. في الأسبوع المنصرم أطلعت على مقال الكاتب علي داود اللواتي، بجريدة عُمان والذي حمل عنوان (العلمانية على خط الخلاف بين البرانية والجوانية في الفكر الإسلامي)، ومما كتبه نقلا ـ كما قال ـ عن أحد الباحثين عن جوهر العلمانية أنها: «نظام معين في الأخلاق وخاصة في الحقوق الاجتماعية يقوم على أساس مفروضات مسبقة تقرر أن المعايير والسلوكيات ينبغي تعيينها من خلال النظر إلى هذه الحياة، في هذه الدنيا، والعمل على توفير الرفاه الاجتماعي، وفي هذا الباب لا ينبغي اللجوء إلى تعاليم الدين». ويستطرد الكاتب معلقا على النقل السابق:«إذن الفرد أو الجماعة العلمانية لا تبحث عن مسوغات أو تبريرات دينية لحل المشاكل التي تواجهها في هذه الحياة (الدنيا) - وجدير أن يتم التشديد على سمة (الدنيوية) هنا - بل تعتمد على النظر الواقعي لسلسلة الغايات والوسائل».

أولا: أنني أستغرب أن يقوم البعض بتحوير مصطلح معين أو تغييره إلى رؤية أخرى مغايرة، كما تم تعريف مصطلح العلمانية من الغربيين أنفسهم، وإن كان هناك تعريفات متعددة أشار لها د. عبد الوهاب المسيري، لكنها لا تخرج عن المفهوم التأسيسي للعلمانية في الديانة المسيحية. وممن حدد العلمانية منذ القرون الوسطى، كما جاء في المقولة الشهيرة التي قالها كما جاء في إنجيل يسوع -أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر-، فهذه الفكرة الأساسية للعلمانية، وبعد دخول الدولة الرومانية في الديانة المسيحية، حصلت الكثير من الإضافات للديانة، من قبل الملوك الرومان، وإعطاء لهم العديد من الأوصاف لهم، كالحق الإلهي، أو الحق الملكي المقدس، والتفويض بهذه الصفة، وهذه بلا شك لم تكن في الديانة المسيحية الأصلية، لكن الدولة الرومانية «أدخلت العديد من المفاهيم الوثنية»ـ بحسب د. التيجاني عبد القادر حامد ـ وهذا لا يتفق مع بعض الفرق المسيحية، ومنها المذهب القبطي أو الكنيسة الشرقية، وكانت متمسكة بالروح المسيحية بعد ظهورها في القرون الأولى.

إذن العلمانية لا شك لها ارتباط وثيق بالديانة المسيحية، ولم تنشأ في عصر الإصلاح الديني الكنسي، والتي رفضت الكثير من الممارسات من الكنيسة الغربية، التي خرجت عن مجالها، وتدخلها في السياسة والعلم والاختراع، وقتلت وتعسفت في القمع والفرض على مقولات رفضتها النخب الفكرية والفلسفية في الغرب، كما لم تخرج العلمانية كذلك من عصر التنوير كما يعتقد البعض، لكن تمحورت في ذلك العصر وبقاء الكنيسة في اختصاصها الروحي فقط، وهذا بلا شك «عودا على بدء» للمقولة التي قالها يسوع وفق إنجيل مرقص، وهذا يعني أن العلمانية ليست كما توصف الآن بحسب ما نقله الكاتب علي اللواتي من أحد الباحثين كما قال، وكأنها إحدى الفتوحات العلمية أو الفلسفية لعصر النهضة في الغرب. لكن ارتباط العلمانية بالرؤية المسيحية هذه حقيقة، وهذا ما أكد عليه أحد الباحثين الغربيين، في كتابه ( تاريخ موجز للعلمانية)، والذي صدر مترجما هذا العام 2021، يقول الباحث «غرايم شميث» في مقدمة هذا الكتاب:«الفكر العلماني يعتمد بشدة على الافتراضات المسيحية، إلى درجة لا يمكن معها استيعاب الأخلاق الليبرالية والأخلاق الغربية الحديثة إلا باعتبارها إرثا مسيحيا.. العلمانية لا تمثل نهاية المسيحية ولا تدل على إلحاد الغرب؛ بل يجب النظر إليها باعتبارها التعبير الأحدث عن الديانة المسيحية».

وهذا القول يؤكد أن العلمانية هي رؤية مسيحية بلا جدال، وليست كما يصورها البعض، بمقاربات غير دقيقة للفكرة، كما تأسست، أو كما نقله الكاتب علي اللواتي من أن العلمانية «نظام معين في الأخلاق أو الحقوق الاجتماعية». وهذا القول يخالف ما قالته دائرة المعارف البريطانية في تعريف العلمانية بأنها:«حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا». وهذا ما أكد عليه أيضاً المستشرق الأمريكي، والمقرب من الحزب الجمهوري كأحد الباحثين الذين يأخذ صناع القرار فيها مشورته السياسية والفكرية عن الشرق الأوسط، ويقول برنارد لويس، في كتابه -الإسلام والغرب- إن كلمة العلمانية تعني فك الارتباطات الدستورية والقانونية حيث يتم تجنب حدوث تداخل بين الكنيسة والدولة، والقليل من الدول الأوروبية الحديثة اتبعت المثال الأمريكي كاملا ـ مضيفا في الصفحة نفسها ـ إن العلمانية «لم تنشأ من مشكلة مماثلة في التاريخ والثقافة الإسلامية، ولذلك لم تبرز الحاجة إلى حل مثل الحل العلماني لدى الأمة الإسلامية، و لا نجد لدى المسلمين مشكلة صراع ديني داخلي كما حدث في أوساط الكنيسة النصرانية، ولا نجد ذلك سواء في أوساط الفقهاء أو السلطان».

د. فهمي جدعان في كتابه - في الخلاص النهائي - نقلاً عن بعض الكتاب الغربيين إن نظرية «العلمنة» نظرية خاطئة في أساسها وماهيتها. وفي نقد عنيف، يقدّر (رودني ستراك Rodny Strak ) و (روجر فاينك Roger Finke ) أن الوقت قد حان لأن نقبر أطروحة العلمنة: «بعد قرابة ثلاثة قرون من النبوءات والتصورات المغلوطة تماما بشأن الحاضر والماضي، يبدو أن الوقت قد حان لأن نحمل عقيدة العلمنة إلى مقبرة النظريات المخفقة، وأن نتمتم هناك ونتلو بخطى سريعة على روح الميت من أجل أن يرقد بسلام !، وفي حدود هذه الأطروحة، يتساءل نوريس وانجلهارت: هل كان كونت ودركهايم وفيبر وكارل ماركس مخطئين خطأ تاما في معتقداتهم الخاصة باضمحلال الديني في المجتمعات الصناعية؟ هل كانت هيمنة النظرة السوسيولوجية خلال القرن العشرين في ظلال تام ؟ هل أُقفل السجال نهائياً ؟ ويجيبان قائلين: « نعتقد أن لا. والكلام على دفن العلمانية سابق لأوانه». ـ مضيفا ـ لكن لا شك في أن العلمنة التقليدية تحتاج إلى مراجعة، إذ من الجلي أن الدين لم يختف من العالم ولا يبدو أن الأمر سيجري على هذا النحو». (ص119،118)..وهناك الكثير من الآراء التي تؤكد خلاف ما سرده عن العلمنة، وأنها تعني نظاما للأخلاق، أو القانون الاجتماعي.

ثانيا: قال الأخ علي اللواتي في مقاله المشار إليه آنفا، إن:«الدين يهتم بالحياة الأخرى وإن حصل أن تحدث عن هذه الحياة فيكون ذلك بلحاظ الحياة الأخرى وليس عن أصالة. فالحياة الدنيا في نظر الدين هي لا شيء تقريبا مقارنة بالحياة الآخرة». ولا أدري كيف استطاع الكاتب علي اللواتي، أن يصف الدين ـ هكذا تعميمياً ـ دون أن يحدد ما هو الدين، فلو نظر الكاتب إلى دين الإسلام، وما وضعه القرآن الكريم عن الحياة بكافة قضاياها ومسائلها، فقد تحدث دين الإسلام عن الأخلاق في التعامل، والقيم والاستمساك به لكان أصوب وأرحب، فقد تحدث عن العقل ودوره في النظر والبحث والمراجعة، وعن الاقتصاد الصالح للأمة، وعن الفساد وخطره، وعن حرية الاعتقاد دون الفرض والإلزام، وأهم ذلك التوازن بين ثنائية الفرد والجماعة، مع أن الآخرة كانت تذكيراً للسلم، فهي الحقيقة الأزلية التي لا مفر منها لفعل العمل الصالح، لكن الإسلام، لكن لم يطلب من المؤمنين أن يجلسوا في الكهوف والمغارات للتعبد وانتظار الأخرة، فقد دعاهم الخالق عز وجل أن يعمروا الأرض في الدنيا، وأن يأخذوا بأسباب الحياة، وإذا كانت بعض الأديان، تطلب التفرغ للعبادة، دون الاهتمام بالدنيا، فهذا لا يطلبه دين الإسلام أبداً، ولو كان هذا صحيحاً، لما أقام الإسلام هذه الحضارة الكبرى، بعد ظهور الإسلام بأقل من قرن، ولذلك كما نعرف جميعاً، ما جاء في أول آية في القرآن الكريم، في الدعوة للنبي (اقرأ)، وهذا ما دفع الظمأ للعلم والبحث والنظر، وهو الذي فتح الآفاق للمسلمين، أن يقيموا حضارة عالمية، وبرز منهم علماء في كل مجالات العلوم كما نعلم، وهذا ما ينبغي أن ندركه، ولا يستساغ أن نأخذ الآراء دون أن نفحص وندقق فيما يقال من الآخر المختلف، والخلاصة أن العلمانية لا دخل لها لا بالعلم، ولا بالديمقراطية ولا بآراء وفلسفات سبقتها بقرون، فهي نتاج النظرة المسيحية كديانة روحية، خرجت عن مجالها الكنسي، ودخلت في قضايا وممارسات دفع المثقفون في الغرب إلى تحجيمها وإقصائها عن ما سارت عليه في العصور الوسطى، وللحديث بقية.