نحتُ المتفرِّج في الجريمة: السرد وموقع المتفرج في فيلم كوروساوا "راشومون" (2 من 3)

26 يونيو 2022
أنساغ
26 يونيو 2022

لا شك أن سؤال الزمن بوصفه وعاء للواقع، بل وحقًا خلقًا له، يكمن في قلب الفن السينمائي في علاقته بالواقع وتمثيلاته المتعددة (representations) لذلك الواقع. والحقيقة أن بيير باولو بازوليني Pier Paolo Pasolini يصف رؤياه السينمائية، على سبيل المثال، بأن صنع فيلم هو، بصفة جوهريَّة، عملية صنع "الواقع في الواقع" (1). ومحاججة بازوليني هذه حول الحضور القوي للزمن في السينما، بشكل لافت أكثر مما هو عليه الأمر في فنون أخرى، مهم بصورة خاصة نظرًا إلى أن بازوليني، وقبل اتجاهه لصنع الأفلام، كان قد كتب الشعر والرواية، وهما فنَّان يتعاملان مع الزمن بطريقتهما التي قد تكون محدودة مقارنة بما يحدث في السينما.

والمعنى الذي يتحدث عنه بازوليني حول الواقع باعتباره صنعًا ونتاجًا لتأويل ما تقوده إلينا حواسنا المحدودة باعتباره ما نسميه "الواقع الموضوعي" يجد صدى قويًا لدى مخرج سينمائي عظيم آخر تصطبغ أعماله بهوس كثيف ذي شأن يخص القلق الفلسفي حين يتعلق الأمر بسؤال الزمن، وهو أندريه تاركوفسكي Andrey Tarkovsky، حيث يؤكد هذا على الانتقائيَّة والتقطيعيَّة التشريحيَّة في علاقة السينما بالزمن. وفي هذا فإنه يعرِّف عمل المخرج السينمائي بأنه "النحت في الزمن"، إذ أن عمل صانع الأفلام مُقارَنٌ هنا -في كلمات أخرى- بعمل النَّحات الذي "يأخذ كتلة من الرخام، ويزيل كل شيء لا يشكل جزءاً من ملامح الصورة النهائية لعمله، والذي هو [أي النَّحات] واعٍ داخليَّاً بها" (2). وفي هذا السياق، يتدبر فيلم "راشومون" أمره في البوح بنفسه بوصفه نتاجاً نهائيَّاً لعدة مصادر متضاربة كلها متجذرة في الزمن نفسه، ولكنها ترى ما حدث في الواقع بصور مختلفة.

والآن، فإنه ينبغي التوكيد على إن فيلم "راشومون" لا يلجأ إلى طرائق استثنائيَّة في محاولته القبض، وإعادة القبض، وتمثيل (representation)، وإعادة تمثيل (re-representation) الأحداث المظنون أنها حدثت في الماضي؛ بل إن الفيلم يستعمل التقنية الأكثر تقليديَّة، ومألوفيَّة، وجاهزيَّة لدى كل مخرج سينمائي وكل متفرِّج: أعني الاسترجاع (flashback). وعلاوة على ذلك فإن البناء المونتاجي للمَشاهد الطويلة التي تشكل وحدات سرديَّة شبه مستقلة (sequences) في الفيلم واضح وضوح الشمس، وبسيط، ومُدْرَكٌ بطريقة تتعمد الابتعاد تمامًا عن تضليل المتفرج أو التشويش عليه في مسألة المنظورات السرديَّة، ووجهات النظر، في تلك الاسترجاعات.

وفي تلك البساطة تكمن حقيقة أن "راشومون" لا يشبه أي فيلم من الأفلام الأخرى، الكبيرة والمُعَمَّدَة، في هيكل الدراسات النظريَّة والنقديَّة السينمائيَّة، التي -أي تلك الأفلام- تجلت فيها إشكالية الزمن العويصة بصورة قوية. لا مجال، مثلاً، لمقارنة البناء المونتاجي لفيلم "راشومون" بالبناء المونتاجي المعقَّد والطَّموح في استرجاعات المشاهد الطويلة في فيلم "المواطن كين" لأورسن ويلز Orson Welles (1941)؛ ففي هذا السَّلَف السينمائي لـ"راشومون" تتذكر الشخصيَّات أحداثًا يثق المتفرج تمامًا أنه ليس من الممكن إطلاقًا لتلك الشخصيَّات أن تكون قد شهدت ما تزعم أنها تتذكره (كما في حالة شخصية جِدِدايه ليلاند الذي لم يحضر إفطار كين وابنة أخ الرئيس، ومع ذلك فإنه يصف تدهور الزواج). أما في "راشومون" فإننا، مثل الشخصيَّات نفسها، نكون واثقين من أن جريمة مزدوجة قد حدثت بالفعل، وأن أولئك الذين يروون تذكُّراتهم عنها شهدوها حقًا و/أو شاركوا فيها بصورة من الصور.

ولا يشبه البناء المونتاجي في فيلم "راشومون" نظيره في تلك الشبكة المونتاجيَّة المتاهيَّة في خَلَفِهِ "السَّنة الأخيرة في مارِنباد" لألن رينيه Alain Resnais (1961)؛ ففي الثاني ليس هناك أي يقين من أن أي شيء قد حدث فعلاً ومن الأساس. بكلمات أخرى، فإنه بينما تعمل الاسترجاعات في فيلم "المواطن كين" على إزاحة المتفرِّج (displace) ووضعه في المكان الخطأ (misplace)، وتعمل الاسترجاعات في فيلم "السنة الأخيرة في مارِنباد" على محو موضعة المتفرج (de-place)، إذا جاز القول، من الأساس، فإن الاسترجاعات في فيلم "راشومون" تكتفي بإعادة موضعة (re-place) المتفرِّج، وفي هذا فإنها لا تدخر جهداً من أجل جعله واعياً بإعادة الموضعة تلك (أما مسألة أن مضمون الاسترجاعات في "راشومون" معقَّد ومتضارب أكثر من مضمون الاسترجاعات في فيلم "المواطن كين"، وفي الأقل بنفس درجة التعقيد في فيلم "السنة الأخيرة في مارِنباد"، فتلك مسألة أخرى لا أظن أن عليَّ أن أحفل بها هنا).

أود الآن محاججة أن علينا فهم الاسترجاعات في "راشومون" بأنها "شكلٌ مُخَشَّنٌ" (roughened form) بالمعنى الذي ورد به المفهوم في النظرية الشكلانيَّة الجديدة، وبصورة أكثر دقة "خلق التأجيلات" كما تقول كرِستِن ثومبسون Kristin Thompson (3). محاججتي هي أن غرض "الشكل المُخَشَّن" في "راشومون" ليس "تأجيل" فهم المتفرج، ولكن بالأحرى تشكيل تَحَدٍّ لفكرة الفهم من الأساس، وهذا التحدي السردي يكمن في الأسلوب البسيط (حيث قد ينبغي التذكير بتحذير روبير بريسون Robert Bresson من "سوء ظنٍّ غبيٍّ بالأشياء البسيطة" (4).

والتعقيد التقني الوحيد في "راشومون" يكمن في حقيقة أن استرجاعاته مزدوجة، أي تقديم استرجاع في استرجاع آخر؛ فعلى سبيل المثال، وفي الاسترجاع الخاص بالحطَّاب، يتذكر القِسُّ مشهد مثوله للتحقيق في مقر الشرطة، وهو الفضاء الذي يتذكر فيه رؤيته الزوج والزوجة قبل ارتكاب الجريمة. ومع ذلك، فإنه في هذه البساطة الظاهريَّة يقدِّم الفيلم أسئلته الصعبة والرهيبة؛ حيث إنه حتى ولو لم يفقد المتفرج حس الزمان والمكان فإن تلك الاسترجاعات تخلق انطباعاً بزمن غير خطي، ومُشَظَّى، في العلاقة بين المتفرج والفيلم. ومن أجل إلقاء الضوء على تلك الخواص فإنه يجدر بي أن أقدم تحليلًا مبدئيًا للبناء السردي للفيلم، وهذا ما سأفعله في الحلقة القادمة.

---------

(1). Pier Paolo Pasolini, quoted in Stephen Snyder, Pier Paolo Pasolini (Boston: Twayne, 1980), 29.

(2). Andrey Tarkovsky, Sculpting in Time: Reflections on the Cinema, trans., Kitty Hunter-Blair (London: The Bodley Head, 1986), 65-6.

(3). Kristin Thompson, Breaking the Glass Armor:

Neoformalist Film Analysis (Princeton: Princeton University Press, 1988), 37.

(4). روبير بريسون، ملاحظات في السينماتوغرافيا، ت: عبدالله حبيب (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1998)، 93.