أسْلافُنا الذين أنكرناهم

23 ديسمبر 2025
23 ديسمبر 2025

كيف وصل بنا السبيل إلى تنشئة جيل، ميت منبت عن أصوله، مرتبط جوهرا بثقافة غربية، توجهه وتصنع أحلامه ومراميه ومقاصده؟ أذكر أني عندما كنت أدرس حي بن يقظان لابن طفيل أو أعرض للقصة، أسأل الطلبة: أكيد تعرفون قصة ابن طفيل، فتبدو الدهشة على وجوههم، فأجيب بسرعة: هي قصة شبيهة بقصة ماوكلي، فيهزون رؤوسهم وقد تعرفوا على أجواء القصة. كيف صرنا إلى هذا النسيج المعرفي الباهت، لا تعرف هذه الأجيال قصة علاء الدين إلا من السينما الهوليوودية، ولا يعرفون رحلة المعري، بل لا يعرفون أحيانا أبا تمام وعمر بن أبي ربيعة، لا يعرفون «رسالة الغفران» ولا «البخلاء» ولا «الحيوان»، تصحّرٌ معرفي يقودنا حتما إلى تكوين أجيال تدربت على تكسيل العقل واللجوء السريع إلى الذكاء الاصطناعي ومشتقاته، مما أضعف ذكاءهم وذاكرتهم. فوجئت مرات عديدة بطلبة أقسام الأدب العربي، لا يعرفون رواية «شرق المتوسط» ولا رواية «الياطر»، ولا «الحرافيش»، فما بالكم بالحادث من أعمال الأدب؟ فوجئت حتى لم أعد أفاجأ. بناء النسيج المعرفي والثقافي للأجيال القادمة هدف وطني قومي، لا ينبغي أن يستهان به، ومع الأسف المسؤولية لا تقع على هذه الأجيال فحسب، بل تعود إلى الفضاء الثقافي الحاضن، الذي يوجد فيه الأولياء القارئون، فإذا كان الأب والأخ الأكبر يعتصم بهاتفه أو لوحِه لا يتركه، فكيف ستكوّن جيلا يقرأ؟ ويوجد فيه الفضاء المدرسي الذي لا يشجع على بناء هوية شخصية متأصلة، بقدر ما يدفع إلى تكوين كيانات فارغة، تحفظ وتترك، وتعمل على إرضاء المحيط العائلي بدرجات مرتفعة، وعلامات لا تظهر المستوى التكويني الحقيقي. ناقوس الخطر وجب أن يدق ونحن نخسر أجيالا قادمة، وندفعها بأيدينا إلى التسطيح العقلي والجفاف الثقافي، من خلال التحصيل العلمي الشكلي القائم على الأصداء، وعلى الحفظ الآني والتخفيف من برامج المطالعة، والأهم من كل ذلك انعدام الفكرة، فالشعوب حتى تصنع تقدمها تحتاج فكرة تجمعها، وتحتاج غرس بعد الانتماء إلى حضارة عربية إسلامية لها مناراتها، التي يجب أن تفخر بها الأجيال الصاعدة، هذه الأجيال التي فعلا تواجه خطر الاغتراب والاندماج في كونية ليست كونية حقيقية، وإنما هي كونية غربية، وجب أن نصلح هذه الأجيال المعطوبة، وأن نضعها في سياقها الحضاري وأن تكون امتدادا لأسلاف لا ننكرهم. قد يقول قائل: وما الضرر أن يجهل الطالب أسماء آثار وكتابات وكتاب عرب، وماذا سينتفعون منهم؟ هنا عمق الضرر، لأن الحضارات لا تتقدم من فراغ، وآن لنا أن ندرك أن فكرة ماوكلي الشهيرة عند الشباب، هي فكرة مغروسة في عمق تراثنا القصصي في قصة فلسفية عميقة عنوانها «حي بن يقظان»، أراد منها فيلسوف عربي مسلم، هو ابن طفيل أن يطرح قضايا الطبيعي والثقافي في الإنسان، وما هو مجبول عليه، وما يأتيه عن طريق التعلم، وكيف يدرك الإنسان الوجود والخلق بما حمّله الله من عقل، وآن لنا أن ندرك أن تراثنا ضم نخبة ممن صنعوا النسيج الكوني للحكاية، من خلال تحريك الحيوان وإنطاقه وإكسابه مجتمعا وعقلا في قصة صار أسلوبها مرجعا كونيا في التكنية وهي «كليلة ودمنة»، وأن المعري قد تخيل عوالم ما بعدية وبنى بها الحكاية الرحلة، وأن لدينا المصدر القصصي لتولد حكايات كونية وما زال يُستقى ويؤخذ، وهي القصة الماثلة في «ألف ليلة وليلة» التي ضمت علاء الدين والمصباح السحري ومدينة النحاس وعوالم الجن وعوالم الرحلات والغريب العجيب، إضافة إلى علماء كان لهم الفضل في تطوير مباحث عظيمة بأدوات بسيطة ومعرفة عميقة، مثل ابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم وغيرهم ممن شكل عصر الأنوار العربي علما وبنيانا وأدبا. هذه الأرضية ينبغي على العقل المعلم أن يصطفيها وأن يسميها فعلا عصر الأنوار العربي وأن يبني بها ركنا مكينا من معارف الأجيال الصاعدة التي صارت في اغتراب مخيف. لا بد أن نخرج من إطار الشكوى، واستعادة السخرية من ضعف التحصيل عند الطلبة إلى الوقوف على أصل هذه الثغرة وأن نجبّها. أصل المشكلة ماثل في البيئة الحاضنة للأبناء للأجيال القادمة، هي بيئة تجمع بين آل لا وقت لديهم لزرع أصول التكوين المعرفي، بل هم آل في الغالب الأعم نتاج تجارب تعليمية ضعيفة، وقد يكون الأولياء أنفسهم لا يعرفون عصر الأنوار العربي ولا يهتمون به، الأصل الأول في ضرورة وعي الآباء والأمهات بهذا الخطر، بهذا الاستلاب والاغتراب، أما الأصل الثاني فهو المدرسة الحاضنة، ومع الأسف أيضا أغلب المناهج التعليمية العربية هي أصداء لتجارب غربية على مستوى هيكلتها، ولا نجد فيها تمتينا للأصول الثقافية العربية، ولعل المسألة تزداد شرخا مع المؤسسات التعليمية الخاصة من الحضانة إلى التعليم العالي، التي تبني تكوينها على النسخ والمسخ، المؤسسات التعليمية تدفع الطلبة إلى الانبتات عن أصلها وعن بيئتها العربية باتخاذ نماذج سيئة أو التدريس بطرق منفِرة، ولذلك لي يقين أن أغلب المدارس العربية ينفر فيها الطلبة من حصص اللغة العربية! الأصل الثالث هو المجتمع الذي مال إلى التسطيح وإلى استدعاء خطاب سائد منبهر بالفكر الغربي، مقصيا الأصل العربي. أليس هنالك عقل عربي في جامعة العرب أو المنظمة العربية الأممية أو في مختلف الجوامع التربوية التي تحتفل سنويا بيوم اللغة العربية، وكأنه يوم لقتل اللغة العربية. عصر الأنوار العربي حتمية تعليمية، لإنقاذ الأجيال من الاغتراب الذي فرض عليها، وحتى لا نصل إلى الهاوية التي بانت لي عندما سألت طالبا من طلبة الأدب العربي: أكيد تعرف ابن خلدون، قال لي: نعم أعرفها جيدا، هي مدرسة على ناصية الطريق!

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي