الرمز بين التخييل والتلقي قراءة في الجدل حول «الست»
23 ديسمبر 2025
23 ديسمبر 2025
على هامش الجدل الدائر حول فيلم «الست»، سيناريو (أحمد مراد)، وإخراج (مروان حامد)، وبطولة (منى زكي)، وفي ظل ما يتكشف من حوارات واتهامات ومواقف متباينة في مصر والعالم العربي، عدت إلى فكرة راودتني منذ سنوات بعيدة تتلخص في تناول شخصية عمانية في الفترة الزمنية الممتدة ما بين عام 1624م إلى عام 1649م وتساءلت عن الكيفية والصدى الذي سيحدثه التناول إن اقتربت من حياة الشخصية -كمتخيل- وأظهرتها في مواقف إنسانية متباينة كالوقوع في الحب أو أدائها رقصة تقليدية؟ هل كان الجمهور سيتقبل ذلك أم سيرفضه وسيتهمني بإهانة المقدس؟
وفي سياق آخر، عدت إلى تقرير إحدى جهات الرقابة عندنا -والذي أصفه بالمتشدد- حول مسرحيتي «المعراج» وكان من النقاط التي رفضتها الرقابة في تقريرها حول عنوان المسرحية واتصاله بالموروث الديني لرحلة الإسراء والمعراج، واسم الشخصية الرئيسة «طه» وعدها شخصية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وغيرها من المشاهد التي إذا حذفت كان سيهدم ثلاثة أرباع النص المسرحي. إن التساؤل عن حدود التخييل ودور الرقابة على المصنفات الفنية قضية تاريخية يمكن تتبعها في عناوين كثيرة من الكتب والدراسات الجادة. يثير القول السائر «إن كل ممنوع مرغوب» جدلا واسعا واهتماما غير محدود. فما أن يعلن عن تناول شخصية دينية أو سياسية أو فنية وتقديمها في عمل فني تتباين الآراء بشأن الممنوع والحرام! ما المسموح به في التخييل؟ كيف تكتسب الشخصية التاريخية أو الاجتماعية أو الفنية «الرمز»؟ كيف يتحول الرمز إلى «مقدس»؟
تدور لفظة المقدس في (تاج العروس من جواهر القاموس- ص 366) حول معاني الطهر و«القدَاس» بمعنى «المنيع الضخم من الشرف»، و«القدوس» من أسماء الله تعالى الحسنى، و«أرض مقدسة»؛ أي مباركة.
انتقل المقدس وأسقط على الإنسان عبر مسار طويل من التفويض، ثم التمثيل، ثم الرمز، إلى أن أصبح الإنسان ذاته مستودعا للقداسة، لا بوصفه كائنا متعاليا، بل بوصفه صورة جماعية محمية من المساءلة.
لكن مناهج العلوم الإنسانية والاتجاهات النقدية، أسهمت في نقل دراسة المقدس والرمز من المجال الوعظي العقائدي إلى مجال التحليل العلمي والتأويل الثقافي. فعالم الاجتماع (إميل دوركهايم) يرى أن المقدس لا يقوم بوصفه حقيقة ميتافيزيقية مفارقة، بل باعتباره بناء رمزيا اجتماعيا تنتجه الجماعة عبر طقوسها وتمثلاتها المشتركة، وتسقطه على رموز بعينها لضمان تماسكها وحماية منظومتها القيمية، «كلما زادت أهمية المجتمع في تحديد الشيء الذي يجب أن يكون عليه، زادت المجموعة من إضفاء الهيبة على الشيء، زادت قيمته في نظر الفرد» (الأشكال الأولية للحياة الدينية... فلسفة الدين عند دوركهايم- د. حسن العاصي)، فالمقدس بهذا المعنى لا يقدس لذاته، بل لما يمثله من هوية جمعية ومعنى مؤسِس، الأمر الذي يفسر قابليته للانتقال من المجال الديني إلى الثقافي، ومن العقيدة إلى الصورة والذاكرة.
في هذا الإطار، يمكن الانتقال من التنظير إلى التطبيق عبر نموذجين مختلفين في طبيعة الرمز وحدود تمثيله. فقد اقترب مسلسل عمر، من خلال كتابة الشاعر والأديب والسيناريست الدكتور وليد سيف، من شخصية دينية بالغة الرمزية، محاطة بسياج عقدي وتاريخي صارم، ومع ذلك نجح العمل في بناء تأويل درامي متوازن، حافظ على الهيبة الرمزية من جهة، وفتح مجالا إنسانيا محسوبا للعلاقات والسياق من جهة أخرى، وهو ما سمح بتقبل واسع دون إثارة صدام حاد مع المتلقي. لاقى العمل في البداية نقدا شديدا لتجسيده صحابة الرسول، إلا أن العمل نال تقديرا عاليا من الجمهور، من حيث مشاهداته المتكررة وردود فعل الشباب الذين سعدوا باللغة العربية التي نطقت بها شخصيات العمل، حتى درجت بعض حواراته على ألسنتهم في الاستعمال اليومي، ومن النادر أن يحقق مسلسل درامي تاريخي ذلك.
أما فيلم «الست»، فإنه يندرج ضمن وضعية مختلفة؛ إذ لا يواجه رمزا دينيا مغلقا بقدر ما يقترب من رمز ثقافي لا يزال في الذاكرة الوجدانية، وقد سبق تمثيله دراميا بنجاح في مسلسل «أم كلثوم» كتب السيناريو والحوار محفوظ عبد الرحمن، الذي عرف بقدرته على الموازنة بين التوثيق والدراما من خلال التركيز على المسار الفني والاجتماعي، وأخرجته إنعام محمد علي.
غير أن الفيلم يختار زاوية أكثر قربا وجدلية، تضيء الجوانب العاطفية والبراغماتية للشخصية، وهو ما أعاد فتح سؤال حدود التخييل، لا لأن الرمز محرم تمثيله، بل لأن نوع الاقتراب منه، وتوقيت هذا الاقتراب، يعيدان التفاوض مع حساسية التلقي المعاصر.
على خلاف ما قد يظن، فإن الاقتراب من شخصية تاريخية ذات مكانة دينية عالية لا يعني بالضرورة استحالة المعالجة الدرامية، بل يضع الكاتب أمام شبكة دقيقة من الاشتراطات الجمالية والأخلاقية التي تتطلب وعيا مضاعفا بالرمز وبحدود التخييل. ففي مسلسل عمر، نجح السيناريو في بناء الشخصية داخل سياقها الاجتماعي والسياسي، وعلاقاتها بالصحابة، دون المساس بهالتها الرمزية، معتمدا على التأويل التاريخي والانضباط السردي أكثر من الإثارة أو الكشف النفسي المباشر. وهو جهد لا يخفي كلفته الإبداعية العالية، كما يصرح مؤلف العمل نفسه حين يقول:
«الجهد الذي بذلته في صياغة سيناريو مسلسل عمر أرهقني لدرجة أنه أوصلني إلى المستشفى...»، في إشارة دالة إلى حجم التوتر الذي يرافق التعامل مع رموز لم تغادر بعد منطقة التحفظ الرمزي، على أن هذا التحفظ نفسه لا يتخذ الدرجة ذاتها في جميع الحالات، بل يختلف حده وسياقه باختلاف طبيعة الرمز وموقعه في الذاكرة الجمعية.
إذن نلمس أن اقتراب الفن من الشخصيات الرمزية، يلقي بالقائمين عليه داخل حقل ألغام، فالتخييل ضرورة فنية، لكن الرمز المحمل بالقداسة يفرض على المتلقي حدودا أخلاقية صارمة، سرعان ما تتحول إلى صدام مفتوح بين العمل والجمهور.
في هذا السياق يمكن أن نطرح سؤالين: هل ثقافة الاختلاف موجودة؟ ولماذا هناك خوف من النقد؟ إن الاختلاف في الآراء شيء جيد ويجب تأكيده. يعد مفهوم الاختلاف من المفاهيم المشحونة بالانفتاح على مصطلحات الخيال والسياسة. ظهر الاختلاف كما يشير مؤلفو كتاب مفاتيح اصطلاحية جديدة متصلا «بالحركات الاجتماعية الجديدة التي تكاثرت منذ أواخر القرن العشرين- ص 53». انتقل المصطلح إلى الثقافة على يد سوسير مقدما الفكرة القائلة: «إن الاختلاف يحتل موقع المركز في إنتاج المعنى-ص 54» وتتمثل أكثر الصور تطرفا للمقابلة في المقابلة المزدوجة أو الثنائية، التي تقسم المتجه إلى طرفين يتبادلان الإقصاء: الأبيض/ الأسود، الذات/ الآخر، الرجل/ المرأة...إلخ. بعد ظهور فيلم السِت ظهر التراشق بالألفاظ الحادة، وإطلاق الأحكام المتسرعة، التي تخفي وراءها مخزونا من الصورة (المثال/ الأيقونة)، حيث «يوصف المختلف وصفا سلبيا خالصا باعتباره ما ليس بالمطابق-ص 55». إما أن يتطابق الرمز الجديد «فيلم الست» مع الرمز المعيار للسيدة أم كلثوم الساكن في التاريخ والذاكرة أو هو منحرف. هكذا تصير المقابلات الثنائية بابا مفتوحا لوصف أنظمة الهيمنة وبؤرة الانطلاق في النقاش.
إن التخييل أداة فنية، لا وثيقة تاريخية. يلجأ كاتب السيناريو بواسطته إلى اختيار ما يراه مناسبا لبناء العمل الفني. أجاد فيلم الست اختيار لحظة وقوع «أم كلثوم» على مسرح الأولمبيا في باريس، ثم أخذ بواسطة اختيارات حاسمة العودة بالست إلى مراحل الطفولة والبناء، لتظل ساعات الفيلم كله تتحرك في تلك اللحظات المؤثرة. لم يهتم السيناريو باستدعاء أم كلثوم كما حفظها الأرشيف الغنائي؛ بل كما يراها صناع العمل: امرأة، فنانة، تدخل في صراعات بشرية.
استدعى هذا الاختيار آراء مختلفة في الشارعين المصري والعربي، آراء ترى أن الفيلم انحرف عن الرمز المعيار، المتفق عليه، ويجب منعه وحذفه من دور السينما، وآخرون وجدوا فيه امرأة تحب ولا تنال، إنسانة ذكية حريصة على مالها وليست بخيلة وغير مبتذلة. في العملين يطرح هذا السؤال: من تقدم على الآخر الأخلاقي أم الجمالي؟
الجواب: لم يعد المتلقي متفرجا، بل حارسا للرمز، مراقبا أخلاقيا، سلطة تأويلية مضادة للفن. وكلما اقترب الفن من الرمز، انتقل التلقي من سؤال الجمال إلى سؤال المشروعية، ومن تقييم العمل إلى محاكمة النية، وهنا لا يختبر الفن، بل يختبر المجتمع وحدود تسامحه مع الاختلاف السردي.
آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة فـي شؤون المسرح
