احتجاج

23 ديسمبر 2025
23 ديسمبر 2025

فكرت مرات عديدة فيما لو تواصلت مع مشرف هذه الصفحة، طالبة منه أن يحتفظ بعمودي فارغا إلا اسمي في أسفله كما هو الآن، والمستطيل المحدد في طرف الصفحة. كان ذلك في سياق الأحداث الكبرى، الكارثي منها على وجه خاص. عندما كانت الإبادة في فلسطين قد أعادت سؤال الكتابة وقت الكارثة إلى الواجهة مثلا. أو عندما شنت إسرائيل حربا على إيران. ربما عندما انفجرت «البياجر» أو عندما سقط صاروخ في «الدوحة». أو عندما ماتت عائلة كاملة بسبب الغاز في قرية قريبة من بيتي بعدما لم يستطع العائل تحمل تكاليف الكهرباء. في أحداث كهذه ما الذي يمكن أن يقال؟ ولا يسبب عارا لقائله؟

سيشك المحرر ربما في صحتي العقلية، أو في ثقتي المطلقة بذاتي، تلك التي تدفعني للتصديق بأن هذا الإعلان «المدفوع» لمعلنه - بالمناسبة - سيمنح لي في صحيفة مهمة كهذه التي أكتب فيها. ففكرت بوسائل لإقناعه، سأبدأ بتلك النكتة ذائعة الصيت والتي يحبها الرجال كثيرا، بل أعتقد أن علاقتهم بها تتجاوز الحب. تلك القصة تقول: حاول رجل كتابة ما تريده المرأة حقا، وانتهى به الأمر مع مجلد كبير، فقام ببيعه، واشتراه عدد لا نهائي من البشر، ما إن تفتح الكتاب حتى تكتشف أن صفحاته فارغة. هكذا تنتهي القصة، لينفجر المستمعون من الضحك، للمفارقة المعجزة، أن المرأة كائن ملغز ولن نعرف ما تريده مطلقا.

سأقول للمحرر تخيل لو أن ذلك الكاتب «الفلتة» وبمجرد اكتشافه لهذه الفكرة خارقة الذكاء قد توقف عند ذلك الحد؟ هل كان ذلك ليعني ما عناه في آخر الأمر؟ سيضحك المحرر ويقول إنني أتصرف الآن بصبيانية، وربما -بغير إلحاح منه- سأشعر بأن علي التعامل مع هذه المسألة بجدية أكبر، وأن أبذل بعض الجهد.

أعلنت الكويت عن حربها مع عصابات صهيونية سنة النكسة نفسها ١٩٦٧، وعين الشيخ جابر الأحمد الصباح آنذاك حاكما عرفيا للكويت، ملأت دعوات الشعب للفداء كل مكان، ومنعت بموجب الأحكام العرفية الدول الأجنبية من دخول أجواء ومياه الدولة. صدر في هذا الوقت مرسوم أميري في الخامس من يونيو سنة ١٩٦٧ يقضي بفرض الرقابة على صحف الدولة من بين وسائل أخرى. ستدخل الكويت في تنويعات مماثلة خصوصا مع برلمانها الشعبي، كما حدث مع الحل غير الدستوري لمجلس الأمة سنة ١٩٧٦، لكن الصحافة ستعيد أيضا إنتاج ممارسة مثيرة للاهتمام، إذ ستنشر الصحف ملطخة بفراغات بيضاء مكتوب عليها كلمة واحدة فحسب: «مراقبة».

سأحاول إقناع المحرر بقبول هذا البيان الاحتجاجي مرة أخرى، سأقول له إنها على الأقل وفي البداية ستبدو طريفة، مثل مقاطع الأخبار المسجلة لمذيعين يخطئون في قراءة اسم ما، أو يبكون لخبر ما، فينتشر في كل مكان، لمفارقة أن يظهر المذيع المتوقع أن يكون جادا وصارما، أكثر بشرية مما نتخيل. يبدو أن وراء ذلك الوجه المحايد، روحا تضحك أو تبكي أو تهزأ بكل شيء. ولأنها وربما -واسمح لي أيها المحرر- لم تحدث في جريدة عمان قبل ذلك بحسب علمي، فهذا قد يجعل الأمر مثيرا لجدل صحي، وإن حمل دعاية سيئة فهي في آخر الأمر دعاية.

ما زال بال هذا المحرر طويلا معي، فلو كان في مكان محرر آخر، لحول حالتي هذه لمديره، أو ألغى عمودي هذا الأسبوع، واضعا في مساحته خبرا عشوائيا من وكالة الأنباء عن كتابه الذي سيصدر في مدينة «اللالاند» يتحدث عن حالة لـ«لالاندية» فريدة من نوعها. وبهذا الخبر ستحل معضلة هذه المقالة التي صدعت رأسه بما يكفي حتى اللحظة.

أما محاولتي الأخيرة فستكون أننا في نهاية العام، هناك انفتاح قهري يحدث مع البشر في هذا الوقت من السنة، رغبة جماعية في التجاوز، نتجاور في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، نتعاطف مع رغبتنا القديمة بأن العام المقبل سيكون مختلفا وأنه سيكون عامنا، وها نحن نختم على إخفاقنا في فعل ذلك، ومع هذه الخاتمة التي تشعرنا بالخزي والعار نقرر رغما عن ذلك، أنه وبداية من ١/ يناير سيكون عاما مختلفا مرة أخرى. لذلك يا صديقي المحرر، لن يغضب أحد علينا، سيقولون إنها محاولة يائسة أخيرة في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة ٢٠٢٥ لكائن يحتضر، ملقى على الأرض ويخبط بأقدامه ويديه كل شيء. لذلك تجاوز عني يا صديقي المحرر ما سيبدو محاولة أخيرة لعدم الاستسلام، قبل أن أتأكد من أنني أخفقت حقا.

ربما سيوافق هذه المرة، لأنه مثلي سيتأكد من إخفاقه هذه الأيام، ويعرف كم سيبدو مسكينا أمام نفسه وهو يعدها بأن السنة المقبلة ستكون مختلفة. وسيقول لي هيا، هل تريدينها صفحة بيضاء إذن؟ سوداء؟ هل تريدين كلاما مشطوبا عدا كلمة واحدة. ستعجبني هذه الأخيرة، وسأقول نعم نعم، وأريد كلمة واحدة غير مشطوبة ولتكن في السطر الأخير قبل ثلاث كلمات من نقطة النهاية. ولتكن هذه الكلمة: «غزة».

أمل السعيدية كاتبة وقاصة عُمانية