تحديقة
17 ديسمبر 2025
17 ديسمبر 2025
إننا ننظر، ويُنظر إلينا. وفي الطريقة التي ننظر بها ونُمثَّل بها تختبئ تراتبية النظم الاجتماعية، المكانة، والمعنى. وما نراه من صور عنا تغذي فكرتنا عمن نكون، وما هي أدوارنا ومكانتنا الاجتماعية. وبالتالي فنقدها جزء أساسي من التغيير الاجتماعي.
يرتبط مفهوم التحديق -بتنويعاته المختلفة- بعلاقات القوة. فعند الحديث عن التحديقة الكولونيالية (The Colonial Gaze) فنحن نتحدث عن نظرة المستعمر لمن يستعمره باعتباره كائنا أقل أهلية، غرائبي، موضوع للفحص والاستكشاف، أو موضوع للإنقاذ، مورد للاستغلال، شيء يُنظر إليه من أعلى، ويُحبس في التنميطات.
يُمكن أن تُمثل هذه الأفكار حرفياً، لكنها أيضاً توجد على نحو ضمني يمثل اكتشافه تحدٍ: أحياناً زاوية الرسم أو التقاط الصورة تشي بالموقف المتعالي.
وعند الحديث عن التحديق الذكوري فإننا نتحدث عن كيفية النظر إلى النساء، والتحديقة تحمل دائماً دلالة سلبية، وغالباً ما تعني شيئا محدد: النظر إلى المرأة باعتبارها شيئاً للفرجة.
صاغت المنظرة السينمائية لورا مولفي (Laura Mulvey) مصطلح «التحديقة الذكورية» (The Male Gaze) والذي يصف الكيفية التي تصور بها النساء في الفن، والإعلام، والسينما. حيث يصمم المشهد على نحو تكون فيه المرأة «شيئاً للعرض والفرجة» مجرداً من القدرة على الفعل والتأثير، تحركه مرتبط تماماً بالآخر، ويظهر وفق ما يفكر ويتخيل ويرغب، وباختصار مجرد تابع.
يُستخدم مفهوم «تحديقة المرأة» (التحديقة الأنثوية لا يبدو ملائمة أنها تبدو وكأنها تعني شيئاً آخر) ليعني أحد الأمرين:
- نقيض التحديقة الذكورية أو تحديقة الرجل، وقد جاء كمفهوم مضاد وكرد فعل وكمحاولة لاستعادة العين والعدسة، وبهذا فهي تركز على تجارب النساء، عوالمهن الداخلية، وعلى الاعتراف بأهليتهن كفاعلات غير سلبيات، وبالتالي باعتبارهن محركات للعمل الفني. تحديقة المرأة وإن كانت بهذا المعنى مرغوبة، إلا أن المصطلح نفسه لا يبدو أنه يُعبر عما يعنيه المصطلح. لأن التحديق ينطوي بالضرورة على وضع موضوع التحديق موضع ضعف، ليس على الشاشة فحسب بل في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهو أمر غير موجود ولا هو مرغوب أيضاً.
- المعنى الآخر يعني أن يكون غرض وجود الرجل في العمل ـ ولو بشكل جزئي ـ لفرجة النساء. هذه الفكرة مربكة لأنها -على غير الواقع- توحي بامتلاك النساء لقوة التحديق. والواقع أن جمهور النساء وإن كن يرين ويُشاهدن، إلا أنهن يفعلن ذلك وفق شروط الناظر من العدسة، وليس شروطهن. وصورة الرجل عاري الصدر مفتول العضلات هي تجسيد لخيلاته عن الذكورة، وحتى وإن وجدت لتشاهدها النساء إلا أنها لم توضع وفق رغبتهن بل ما يُتصور أنهن يرغبن فيه، على نحو يغذي فنتازيا الرجال حول أجسادهم القوية المشتهاة أكثر مما «يُمتّع» النساء.
والمرأة في هذا السياق تبقى غير موجودة خارج علاقتها بالرجل. التحديق لا يتعلق الأمر «بالصورة» بالمعنى الحرفي، ولا يكفي وجود رجل «معضّل» على الشاشة لادعاء أنه «شيء» لفرجة الجمهور من النساء، فهو في جوهره نابع من المنطق نفسه: كيف يحب أن تنظر إليه النساء، أن يكون موضوعا لرغبة النساء، إنه يتعلق -مجدداً- برغبته، أن يغذي صورته عن الرجولة. في النهاية، فالعمل ينطوي على حرية اختيار الرجل في تمثيل رجولته، بينما تنتفي هذه القدرة والحرية عن النساء لأسباب أقلها أنهن لسن الناظرات فعلياً عبر الكاميرا.
القول بوجود تحديقة المرأة -بالنسبة لي- كالقول بوجود عنصرية ضد البيض أو (reverse racism). نعم يمكن لغضبان أن يُشير لرجل ينتمي للشعوب الأوروبية بـ«زبالة بيضاء» وفي هذا ازدراء وكراهية، لكني لن أسميها عنصرية. إذ ترتبط العنصرية باستغلال الامتيازات، بالظلم الهيكلي، بنظام الاضطهاد، وليس لها وجود أو معنى خارج السياق التاريخي للهيمنة.
