بدأت الولايات المتحدة إعادة تقييم حكومة نتنياهو

12 يوليو 2023
ترجمة ـ احمد شافعي
12 يوليو 2023

إن الانهيار الأمريكي الإسرائيلي الذي تشهده القيم المشتركة يبدأ من حقيقة أن ائتلاف نتنياهو الحاكم، الذي قفز إلى الحكم بأضيق هامش انتخابي، قرر أن يتصرف وكأنه حقق فوزا ساحقا فشرع على الفور في تغيير توازن القوى العتيق بين الحكومة والمحكمة العليا، وهي الجهة المستقلة الوحيدة القادرة على مراقبة السلطة السياسية.

عندما يسألني الناس عن مهنتي التي أكسب منها عيشي، أقول لهم إنني مترجم من الإنجليزية إلى الإنجليزية. أحاول أن أتناول المواضيع المعقدة وأجعلها قابلة للفهم، لنفسي في البداية ثم للقراء، وهذا ما أود أن أفعله هنا في ما يتعلق بثلاثة أسئلة متصلة: لماذا يحاول مجلس إسرائيل الوزاري أن يحطم المحكمة العليا الإسرائيلية؟ ولماذا قال الرئيس بايدن لـ(سي إن إن) إن مجلس وزراء إسرائيل الحالي هو «من أكثر المجالس الوزارية» التي عرفتها إسرائيل «تطرفا»؟ ولماذا قال السفير الأمريكي لدى إسرائيل إن أمريكا تعمل على منع إسرائيل من «الخروج عن القضبان»؟

الإجابة القصيرة للأسئلة الثلاثة هي أن فريق بايدن يرى أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو منخرطة في سلوك راديكالي غير مسبوق ـ باسم عباءة «الإصلاح» القضائي ـ يقوض مصالحنا المشتركة مع إسرائيل، وقيمنا المشتركة، وشيئا آخر لا يقل أهمية وهو الخيال المشترك الخاص بالوضع في الضفة الغربية، والذي أبقى لآمال السلام هناك الحد الأدنى من الحياة.

لو أنكم تريدون الحصول على محض لمحة للتوتر بين الولايات المتحدة وهذا المجلس الوزاري الإسرائيلي الذي يقوده متطرفون، فانظروا إلى الساعات التالية لكلام بايدن لفريد زكريا في (سي إن إن) عن مدى «تطرف» بعض أعضاء مجلس نتنياهو الوزاري، إذ أن أحد أكثرهم تطرفا على الإطلاق، وهو وزير الأمن الوطني، إيتمار بن جيفير، طالب بايدن بالبقاء في حاله لأن «إسرائيل لم تعد محض نجمة أخرى في العلم الأمريكي».

لطيف، صح؟ بحسب تقرير هيئة البحث التابعة للكونجرس في 2020، تلقت إسرائيل أكبر قدر من المساعدات الخارجية الأمريكية بين جميع بلاد العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بما يصل إلى 146 مليار دولار، دونما حساب للتضخم. هذا مصروف محترم، ومصروف قد يوجب قدرا أكبر قليلا من الاحترام للرئيس الأمريكي من بن جيفير الذي أدين في شبابه بالتحريض على العنصرية تجاه العرب.

ثمة إحساس بالصدمة الآن بين الدبلوماسيين الأمريكيين المتعاملين مع نتنياهو، أطول رؤساء وزراء إسرائيل خدمة، وذي الفطنة والموهبة السياسية. يصعب عليهم أن يصدقوا أن يسمح بيبي لنفسه بالانقياد والانسياق وراء أمثال بن جيفير، فيكون على استعداد للمخاطرة بعلاقة إسرائيل بأمريكا وبالمستثمرين العالميين، ويكون على استعداد للمخاطرة بحرب أهلية في إسرائيل، فقط كي يبقى في السلطة مع مجموعة من النكرات والقوميين المتطرفين.

لكن هكذا هو الأمر، وما أشد قبحه. لقد قطع عشرات الآلاف من حماة الديمقراطية الإسرائيلية الشوارع والطرق السريعة وحاصروا مطار تل أبيب يوم الثلاثاء ليوضحوا لنتنياهو أنه مخطئ في حساباته أشد الخطأ حين يظن أن بوسعه القضاء على الديمقراطية الإسرائيلية بهذه البساطة.

إن الانهيار الأمريكي الإسرائيلي الذي تشهده القيم المشتركة يبدأ من حقيقة أن ائتلاف نتنياهو الحاكم، الذي قفز إلى الحكم بأضيق هامش انتخابي، قد قرر أن يتصرف وكأنه حقق فوزا ساحقا فشرع على الفور في تغيير توازن القوى العتيق بين الحكومة والمحكمة العليا، وهي الجهة المستقلة الوحيدة القادرة على مراقبة السلطة السياسية.

في هذا الأسبوع، بدأ نتنياهو وزملاؤه طرح مشروع قانون في الكينيست كفيل بمنع القضاء الإسرائيلي من استعمال عقيدة قانونية راسخة في القانون الإسرائيلي تخول للمحكمة العليا حق مراجعة ومعاكسة القرارات التي ترى فيها طيشا أو زيغا عن الأخلاق مما يتخذه مجلس الوزراء، ووزراء الحكومة وغيرهم من المسؤولين المنتخبين.

ومثلما كتب ديفيد هوروفيتس المحرر المؤسس لصحيفة (تايمز أوف إسرائيل) الوسطية يوم الاثنين فإنه «لا يمكن إلا لحكومة عازمة على القيام بغير المعقول أن تتحرك لضمان أن يعجز القضاة ـ وهم الكابح الوحيد لسلطة الأغلبية في بلد بلا دستور ولا دفاع مقدس معصوم عن حرية الدين وحرية الكلام وغيرهما من الحقوق الأساسية ـ عن مراجعة لا معقولية سياساتها».

مثل هذا التغيير في النظام القضائي الإسرائيلي المحترم على نطاق كبير، والذي أشرف على نشوء اقتصاد ناشئ لافت، لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة من خبراء غير حزبيين وفي ظل إجماع وطني واسع. وذلك ما تفعله الديمقراطيات الحقيقية في هذه الأمور، ولكن شيئا من هذا لم يتم في حالة نتنياهو. وذلك يبرز أن هذه المهزلة الكاملة لا علاقة لها بـ«الإصلاح» القضائي، بل لها كل علاقة باستيلاء سافر على السلطة من قبل كل فئة في ائتلاف نتنياهو.

يريد المستوطنون اليهود إزاحة المحكمة العليا من طريقهم حتى يتسنى لهم إنشاء مستوطنات في شتى أرجاء الضفة الغربية وليسهل عليهم أن يصادروا الأراضي الفلسطينية. ويريد غلاة المتشددين إزاحة المحكمة العليا من طريقهم لكي لا يتسنى لأحد أن يقول لأبنائهم إن عليهم أن يخدموا في الجيش الإسرائيلي أو يقول لمدارسهم إنها يجب أن تقوم بتدريس اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم والقيم الديمقراطية. ونتنياهو يريد إزاحة المحكمة العليا من طريقه ليتسنى له أن يعين من يشاء من السياسيين الهزليين في الوظائف الكبرى.

في يوم الاثنين حصل مشروع قانون الإصلاح القضائي على أول ثلاث قراءات يحتاج إليها من أجل المرور، وذلك ما يقول مجلس نتنياهو الوزاري إنه يريد حدوثه قبل إجازة الكينيست الصيفية في 31 يوليو. هل تتخيلون أن تعدل الولايات المتحدة دستورها ـ في محض أشهر قليلة ـ دونما نقاش وطني جاد أو شهادات خبراء أو محاولة من القائد الوطني للتوصل إلى إجماع؟

لو أن مئات الآلاف من المدافعين عن الديمقراطية الإسرائيلية، الذين خرجوا إلى الشوارع في كل يوم سبت منذ أكثر من نصف سنة، عاجزون عن منع قوة نتنياهو من تمرير هذا القانون، فستكون النتيجة مثلما كتب رئيس الوزراء السابق إيهود باراك في هاآرتس هي «الدنو بإسرائيل إلى بلد دكتاتوري عنصري فاسد يحطم المجتمع ويعزل البلد» وينهي «فصل الديمقراطية» في تاريخ إسرائيل.

ولأضرب لكم مثالا شديد الوضوح. في ظل صفقة تشكيل الحكومة الأصلي التي أبرمها نتنياهو مع شركائه الائتلافيين اليمينيين في العام الماضي، قام بتعيين آرييه درعي ـ زعيم حزب شاس الديني المتطرف ـ ليكون في البداية وزيرا للداخلية والصحة ثم في غضون سنتين يكون وزيرا للمالية بالتبادل مع زعيم الحزب الصهيوني الديني بيتسلئيل سموتريتش.

لقد أدين درعي ثلاث مرات في جرائم مالية أدت إلى سجنه ـ منها تهرب ضريبي وقبول رشاوى. وقد قالت المحكمة العليا، إثر تصويت بعشرة إلى واحد، لنتنياهو في يناير الماضي: إن تعيينه شخصا مدانا بالتهرب الضريبي وتلقي الرشاوى في منصب وزير حكومي «أمر مناف تماما للمنطق» وأنه «يتناقض تناقضا صارخا مع المبادئ الأساسية التي يجب أن تهدي رئيس وزراء عند تعيين وزرائه».

يريد نتنياهو ـ الذي يخضع هو نفسه لمحاكمة بتهمة الفساد ـ أن يحيد المحكمة العليا بحيث لا تستطيع إيقافه عن تعيين المتهرب من الضرائب وزيرا للمالية ليشرف ـ ضمن مهام أخرى ـ على إسهامات دافعي الضرائب الإسرائيليين في الخزانة الإسرائيلية. فكيف يكون هذا «إصلاحا» قضائيا؟

ولننتقل الآن إلى القيم المشتركة. من أهم المصالح المشتركة بين إسرائيل وأمريكا ذلك الخيال المشترك الذي يرى أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية مؤقت وأن يوما ما سوف يجيء بحل الدولتين لـ 2.9 مليون فلسطيني في الضفة. ومن ثم، لا يجب أن تقلق الولايات المتحدة من وجود ما يزيد عن خمسمائة ألف مستوطن إسرائيلي هناك حاليا. فعند تطبيق حل الدولتين سوف يبقى بعض هؤلاء وسوف يرحل آخرون.

بسبب هذا الخيال المشترك، دافعت الولايات المتحدة بصورة شبه دائمة عن إسرائيل في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية في لاهاي في مواجهة قرارات أو أحكام بأنها تحتل الضفة الغربية مؤقتا لكنها في واقع الأمر تضمها إليها ضما دائما.

الحكومة الإسرائيلية الحالية تبذل أقصى جهدها لتحطيم هذا الخيال الذي يشتري الوقت. فمنذ حلفه يمين تولي السلطة في ديسمبر، أقر نتنياهو أكثر من سبعة آلاف وحدة سكنية جديدة، أغلبها في أعماق الضفة الغربية. كما عدلت الحكومة قانونا لتمكين مستوطنين جامحين من الرجوع إلى أربع مستوطنات كان الجيش الإسرائيلي قد أجلاهم عنها، خرقا لتعهد مقطوع للرئيس جورج دبليو بوش بعدم القيام بذلك.

وأعلن سموتريتش ـ وزير مالية نتنياهو ـ في مارس أنه ما من «شيء اسمه الفلسطينيون لأنه ما من شيء اسمه الشعب الفلسطيني». ويعارض حزب سموتريتش إقامة دولة فلسطينية ويناصر الاحتلال وضم الأرض.

إن دأب نتنياهو على تحطيم هذا الخيال المشترك يمثل الآن مشكلة حقيقية للمصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فهو يهدد استقرار الأردن وهذه مصلحة حيوية أمريكية إسرائيلية. ويدفع بلادا عربية انضمت إلى إسرائيل في الاتفاقات الإبراهيمية للتراجع خطوة.

وذلك أيضا يدفع الولايات المتحدة إلى الاختيار. لو أن حكومة نتنياهو سوف تتصرف وكأن الضفة الغربية هي إسرائيل، فسوف تصر الولايات المتحدة على أمرين. الأول أن اتفاقية الإعفاء من التأشيرة التي تريدها إسرائيل من الولايات المتحدة ـ ومن شأنها أن تسمح للمواطنين الإسرائيليين بدخول الولايات المتحدة دون تأشيرة ومنهم أكثر من خمسمائة ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية ـ يجب أن تنطبق على 2.9 مليون فلسطيني في الضفة الغربية أيضا. ولم لا؟ لماذا يستحق مستوطن إسرائيلي في بلدة الخليل بالضفة الغربية دخولا بلا تأشيرة إلى الولايات المتحدة ولا يستحق ذلك فلسطيني من الخليل، وبخاصة لو أن هذه الحكومة الإسرائيلية تقول عمليا إن الخليل تنتمي إلى إسرائيل؟

ولماذا يجب على الولايات المتحدة أن تستمر في الدفاع في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية عن فكرة إن إسرائيل تحتل الضفة الغربية بشكل مؤقت فقط ـ ومن ثم لا تمارس هناك أي نوع من الأبارتيد ـ في حين أن هذه الحكومة الإسرائيلية تبدو سافرة العزم على ضم الضفة الغربية وأعطت اثنين من أكثر دعاة الضم نشاطا ـ أي سموتريتش وبين جيفير ـ سلطات أمنية ومالية كبيرة على مستوطنات المنطقة؟

سوف يلتقي رئيس إسرائيل شديد اللطف، المعتدل، إسحق هيرتسوج ـ الذي ناشد ائتلاف نتنياهو التراجع عن الإجبار على أي تغيير في القضاء وناشده ألا يفعل ذلك دونما إجماع وطني ـ بالرئيس بايدن في واشنطن الأسبوع القادم. وتلك هي طريقة بايدن في الإشارة إلى أن مشكلته ليست مع الشعب الإسرائيلي ولكن مع مجلس بيبي الوزاري المتطرف.

لكن لا شك لدي في أن الرئيس الأمريكي سوف يسلح الرئيس الإسرائيلي برسالة ـ دافعها الحزن لا الغضب ـ مفادها أن مصالح وقيم الحكومة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية تتباين كثيرا، وأن إعادة تقييم العلاقة باتت أمرا حتميا.

ولست أتكلم عن إعادة تقييم لتعاوننا العسكري والمخابراتي مع إسرائيل، فذلك يبقى قويا وحيويا. إنما أتكلم عن نهجنا الدبلوماسي الأساسي تجاه إسرائيل التي تنعزل بلا مواربة في حل الدولة الواحدة: الدولة اليهودية فقط، مع إرجاء تحديد مصير الفلسطينيين وحقوقهم.

إعادة التقييم هذه تقوم على مصالح وقيم الولايات المتحدة، وسوف تكون بمثابة حب قاس لإسرائيل، لكنها ضرورة قبل أن تخرج إسرائيل فعلا عن القضبان. واستعداد بايدن لمواجهة نتنياهو قبل انتخابات 2024 يشير إلى أن رئيسنا يؤمن بأنه مدعوم في موقفه هذا، لا من أغلب الأمريكيين وحسب، وإنما من أغلب اليهود الأمريكيين، بل ومن أغلب اليهود الإسرائيليين أيضا.وهو مصيب في تقديره للفئات الثلاث.