أخطر حماقات العالم

10 مايو 2023
10 مايو 2023

ترجمة: أحمد شافعي -

لم أكتب كثيرا عن حرب أوكرانيا في الفترة الأخيرة، إذ لم يتغير إلا أقل القليل من الناحية الاستراتيجية منذ الشهور القليلة الأولى لهذا الصراع حينما كانت ثلاث حقائق شاملة هي التي تحرك كل شيء، ولم تزل.

الحقيقة رقم 1: مثلما كتبت في البداية، عند بداية حرب بهذا الحجم، فإن السؤال الذي تطرحه على نفسك وأنت كاتب في الشؤون الخارجية يكون شديد البساطة: أين ينبغي أن أكون؟ أينبغي أن أكون في كييف، أم الدونباس، أم القرم، أم موسكو، أم وارسو، أم برلين، أم بروكسل، أم واشنطن؟

ومنذ بداية هذه الحرب كان ثمة مكان واحد لفهم توقيتها واتجاهها، وذلك هو رأس فلاديمير بوتين. ومن سوء الحظ أن بوتين لا يمنح تأشيرات للسفر إلى دماغه.

وتلك مشكلة حقيقية لأن هذه الحرب نشأت بالكامل من هناك بلا مدخلات تقريبا ـ كما نعلم الآن ـ من وزرائه أو قادته العسكريين، وبلا دفع شعبي ولا شك من الشعب الروس. ولذلك فإيقاف روسيا في أوكرانيا ـ سواء بفوز أم بهزيمة ـ لن يكون إلا حينما يقرر بوتين إيقافها.

وهو ما يفضي إلى الحقيقة رقم 2: بوتين لم يضع قط خطة بديلة. ولقد بات واضحا الآن أنه فكر في أنه سوف يؤدي رقصة فالس في كييف، ويستولي عليها في أسبوع، وينصِّب خادما في موضع الرئيس ويضع أوكرانيا في جيبه وينهي أي توسع مستقبلي من الاتحاد الأوروبي أو الناتو أو الثقافة الغربية في اتجاه روسيا. ثم يلقي بظله بعد ذلك على أوروبا كلها.

وهو ما يفضي بنا إلى الحقيقة رقم 3: لقد وضع بوتين نفسه في وضع من لا يمكن أن يفوز ولا يمكن أن يخسر ولا يمكن أن يتوقف. فلم يعد من سبيل إلى الاستيلاء على السيطرة على كامل أوكرانيا، لكنه في الوقت نفسه لا يملك أن ينهزم، بعد كل ما أنفقته روسيا من ثروات وخسرته من أرواح. وإذن فهو لا يستطيع التوقف.

بعبارة أخرى، لأن بوتين لم يضع قط خطة بديلة، فهو مبرمج على قصف عقابي، عشوائي في الغالب، للبلدات والبنية الأساسية في أوكرانيا ـ في حرب استنزاف طاحنة ـ راجيا من وراء ذلك أن يستنزف من دماء أوكرانيا وأن ينهك حلفاء كييف الغربيين فيعطونه شريحة كبيرة من منطقة شرق أوكرانيا الناطقة بالروسية يمكن أن يبيعها للشعب الروسي باعتبارها نصرا عظيما.

خطة بوتين البديلة هي أن يخفي فشل خطة بوتين الأساسية. ولو أن لهذه الحرب اسما دقيقا فسيكون «عملية حفظ ماء الوجه».

وهو ما يجعل هذه من أسقم حروب العصر الحديث وأكثرها دموية إذ يحطم قائد البنية الأساسية المدنية في بلد مجاور إلى أن يمنحه ستارا كافيا يخفي به حماقة عظيمة.

يمكن أن تروا من خطاب بوتين في يوم النصر بموسكو يوم الثلاثاء أنه الآن يتلهف على أي منطق يبرر به حربا بدأها انطلاقا من وهم شخصي بأن أوكرانيا ليست ببلد حقيقي وإنما هي جزء من روسيا. فقد زعم أن غزوه جاء نتيجة لاستفزاز «العولميين والنخب» في الغرب ممن «يتكلمون عن تفردهم، ويؤلبون الشعوب بعضها على بعض، ويشقون صف المجتمع، ويثيرون الصراعات والاضطرابات الدامية، وينثرون بذور الكراهية، ورهاب روسيا، والقومية العدوانية، ويحطمون قيم الأسرة التقليدية التي تجعل الإنسان إنسانا».

يا للروعة! لقد حارب بوتين أوكرانيا ليحافظ على قيم الأسرة الروسية. لم أكن على علم بهذا. هذا قائد يفسر لشعبه سبب خوضه حربا مع جارة ضعيفة يقول إنها ليست ببلد حقيقي.

وقد يقول قائل منكم ولماذا يشعر بوتين بالحاجة إلى ستار؟ ألا يمكن أن يحمل شعبه على تصديق ما يريده مهما يكن؟

لا أتفق معكم. لو أنكم نظرتم إلى سلوكه، لرأيتم أن بوتين يبدو اليوم خائفا إلى حد ما من أمرين: الحساب والتاريخ الروسي.

ولكي تفهموا لماذا يخيفه هذان الأمران، فعليكم أولا أن تنظروا في الجو المحيط به، وهذا ما تعبر عنه بدقة، وبالمصادفة، كلمات أغنية «الجميع يتكلمون» لإحدى فرق الروق المفضلة عندي وهي فرقة نيون تريز. يقول المذهب:

إيه يا حبيبتي ألن تنظري إليّ؟

يمكن أن أكون إدمانك الجديد.

إيه يا حبيبتي ماذا لديك لتقوليه؟

كل ما تعطينيه خيال.

ما أنا إلا أحمق بائس، وهكذا أنا طيلة الوقت.

أجد الجميع يتكلمون.

الجميع يتكلمون. الجميع يتكلمون.

وكل ذلك بدأ بهمسة.

من أهم الدروس التي تعلمتها من عملي كاتبا في الشؤون الدولية ومن الكتابة من بلاد أوتقراطية هو أنه مهما تكن السيطرة محكمة على مكان ما، ومهما تكن قسوة دكتاتور وقوة قبضته الحديدية، فإن الجميع يتكلمون. يعرفون من يسرق ومن يغش ومن يكذب ومن على علاقة بمن. ويبدأ ذلك بهمسة وغالبا ما يبقى عند هذا الحد، لكن الجميع يتكلمون.

واضح أن بوتين يعرف هذا أيضا. يعرف أنه وإن حصل على بضعة كيلومترات قليلة من شرق أوكرانيا واحتفظ بالقرم، ففي الدقيقة التي يوقف فيها هذه الحرب، سوف يجري شعبه أيضا الحسابات بشأن خطته البديلة، وسوف يبدأ الحساب بالطرح.

فقد ذكر البيت الأبيض الأسبوع الماضي أن ما يقدر بمائة ألف مقاتل روسي لقوا مصرعهم أو أصيبوا بجروح في أوكرانيا خلال الأشهر الخمسة الماضية فقط، وأن قرابة مائتي ألف لقوا مصرعهم أو أصيبوا بجروح منذ أن بدأ بوتين الحرب في فبراير 2022.

وهذا رقم هائل من الخسائر ـ حتى في بلد ضخم ـ ويمكنكم أن تروا أن بوتين قلق من أن شعبه يتكلم في هذا، لأنه إلى جانب تجريم أي معارضة، قد سارع في أبريل بسن قانون جديد لقمع التهرب من التجنيد. فكل من لا يتقدم الآن سوف يواجه قيودا على الأعمال المصرفية، وبيع العقارات، بل والحصول على رخصة قيادة سيارة.

ما كان بوتين ليمضي إلى هذا الحد لو لم يكن خائفا من أن الجميع ـ على الرغم من بذْله أقصى جهوده ـ يهمسون بشأن وضع الحرب المتردي وكيفية اجتناب الخدمة فيها.

واقرأوا مقالة ليون آرون الحديثة في واشنطن بوست، وآرون مؤرخ لروسيا في عهد بوتين وباحث في معهد أمريكان إنتربرايز، ومقالته هذه تتناول زيارة بوتين لمدينة ماريوبول الأوكرانية التي تحتلها روسيا.

كتب آرون أنه «بعد يومين من توجيه المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لبوتين بارتكاب جرائم حرب وإصدارها أمرا باعتقاله، ذهب الرئيس الروسي إلى ماريوبول لسويعات قليلة. وتم تصويره وهو يتوقف بجوار «منطقة نيفسكي الصغيرة» متفقدا شقة جديدة ومنصتا لدقائق لساكنيها الممتنين. وفيما هو يغادر إذا بصوت خافت للغاية يصيح من بعيد قائلا: «Eto vsyo nepravda!» أي «إن هي إلا أكاذيب».

قال لي آرون: إن الإعلام الروسي أزال العبارة في ما بعد من الإذاعة، لكن بقاءها في الشريط ربما كان عملا تخريبيا من شخص ما في تراتبية الإعلام الروسي. فالجميع يتكلمون.

وهو ما يفضي بنا إلى أمر آخر يعرفه بوتين إذ قال آرون: إن «أرباب التاريخ الروسي لا يغفرون مطلقا الهزيمة العسكرية»، وفي العصر الحديث «عندما ينهي زعيم روسي حربا بهزيمة واضحة ـ أو بغير انتصار ـ فعادة ما يجري تغيير في النظام. رأينا ذلك بعد حرب القرم الأولى، وبعد الحرب الروسية اليابانية، وبعد نكسات روسيا في الحرب العالمية الأولى، وبعد انسحاب خروتشوف من كوبا سنة 1962، وبعد مستنقع برجينيف ورفاقه في أفغانستان الذي عجَّل بثورة البريسترويكا والجلاسنوست التي قام بها جورباتشوف. فالشعب الروسي، على الرغم من صبره المعروف، يغفر الكثير، لكنه لا يغفر الهزيمة العسكرية».

من أجل هذه الأسباب يرى بوتين الذي انتهى من كتاب عن روسيا في عهد بوتين إلى أن صراع أوكرانيا بعيد كل البعد عن الانتهاء وقد يسوء أكثر كثيرا قبل أن ينتهي.

قال آرون: إن «ثمة الآن طريقتين ينهي بهما بوتين هذه الحرب التي لا يستطيع أن ينتصر فيها أو يعدل عنها: الأولى هي أن يستمر إلى أن تنزف أوكرانيا حتى تجف و/أو يضجر منها الغرب».

والأخرى في ما رأى هي «أن يخوض بطريقة ما مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة ـ وهو ما يقودنا إلى شفا التبادل النووي الاستراتيجي الشامل ـ ثم يتراجع ويقترح على الغرب المفزوع تسوية شاملة من شأنها أن تضم تحويل أوكرانيا إلى بلد محايد منزوع السلاح وبقاء القرم والدونباس له».

مستحيل الدخول إلى رأس بوتين والتنبؤ بخطوته التالية، لكنني قلق. لأن ما نعرفه من أفعال بوتين هو أنه يعرف أن خطته الأساسية فشلت. وسوف يفعل الآن أي شيء لإنتاج خطة بديلة لتبرير خسائره الرهيبة التي تسبب فيها لبلد كل من فيه يتكلم وكل قائد مهزوم فيه لا ينعم بالتقاعد في سلام.

توماس فريدمان كاتب عمود رأي في الشأن الخارجي في جريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».

«خدمة نيويورك تايمز».