الأدب باعتباره فضاءً للتفكير

19 أكتوبر 2022
19 أكتوبر 2022

كثيرا ما نصف أعمالا أدبية أو فنية بأنها مؤثرة. لكن بأي معنى؟ هل يعني ذلك أنها تحل مشاكل العالم الواقعي؟ أو تُعلمنا دروسا يُمكن تطبيقها في حياتنا؟ يُمكننا أن نجيب بنعم ولن نكون مُخطئين، لكني -أزعم- أن هذه ليست النتائج المباشرة للعمل السردي. فما هو نوع التأثير الذي تصنعه على نحو مباشر؟

كاتب النيويوركر لويس ميناند في مقاله - (يُمكن أن يُترجم لـ: ما العظيم بشأن مقررات الكُتب العظيمة؟) يُعدد منافع الآداب والفنون، فيقول إنها (وأنا أُترجم هنا): «سجلات لما عنته التجارب البشرية. إنها تُخبرنا شيئًا عن العالم»، ثم يستدرك مُجادلا: «لكنها ليست سجلات أرفع شأنا. فحري بمقرر يدرس علم النفس الاجتماعي، أن يُكون كاشفا وملهما بمقدار ما تكون الرواية. إنه لمن غير المنطقي التفكير بأن لقصصٍ أدبية عن أشخاص مُتخيلين - أن تُطور لدى الطلبة حِسا بالتعاطف، أكثر مما تفعله دراسة حيوات أناس حقيقيين عبر مجالات أخرى».

أناقش في هذا المقال الادعاء السابق في ضوء الورقة العلمية المعنونة بـ«هل يتمحور السرد الأدبي حول الحقيقة أو المعنى؟ للباحثة في فلسفة الأدب لين فيرهاين التي ترجمها إلى العربية إبراهيم الفريح، والمنشورة على منصة معنى.

عندما نتحدث عن قيمة الأدب، فنحن نتحدث عن الأسباب التي تجعله يستحق أن يُقرأ من وجهة نظر معرفية (ابستمولوجية). يُمكن أن تُقرأ الروايات والقصص والمسرحيات لأنها -مثلا- وسيلة ترفيه، أو لمجرد الفضول، إلا أن هذا ليس ما نُشغل به هنا. بل إننا نُشغل بدورها المعرفي.

موضوع الورقة

يقترح الجدل المعاصر حول القيمة المعرفية للأدب أن قيمة السرد تأتي من أنه يُسهم في كسب المعرفة عبر الحقائق التي يُقدمها لقارئه؛ لأن العمل السردي -وإن ضمنا- يحوي افتراضات «صحيحة» حول العالم الواقعي. تستند الباحثة لين فيرهاين على أفكار حنة آرنت في كتابها الذي نُقل إلى العربية بعنوان «حياة العقل: الجزء الأول التفكير» (2016)، لتُجادل بأن علينا أن نفهم الآداب والفنون بوصفها «متصلة بفعل التفكير». التفكير الذي يأتي نتيجة حاجة الإنسان لإعطاء معنى للأشياء، دون الوصول إلى نتائج محددة وقطعية بالضرورة.

قيمة الأدب حسب المقاربة القديمة

كما أشرنا سابقا، يقترح المنظرون أن قيمة الأدب تأتي من أنه يُقدم لقارئه فرصة اكتشاف حقائق، واكتساب معارف جديدة، وأن هذا يتأتى من التوازي (بل والقرابة) بين العوالم الأدبية والعالم الحقيقي. يُمكن للأدب مثلا أن يحمل القيمة التي تدرس في التاريخ، أو يُقدم تجارب أناس آخرين، أو يُسهم في تكوين (وتغيير) المواقف الأخلاقية.

لا يُمكن لهذا المنظور أن يقف أمام جدال ميناند حول قيمة الآداب والفنون. فإذا كانت القيمة المعرفية للسرد نابعة من شبهه بالعالم، فلماذا لا ندرس العالم نفسه وشخصياته الحقيقية عوضا عن القراءة عنها في العوالم الموازية؟

قيمة الأدب كما تُجادل فيرهاين

تقترح الباحثة وعلى ضوء ما تكتبه حنة آرنت عن التفكير أن الأدب وسيلة لاكتساب -لا معارف- بل معانٍ جديدة. فما تعنيه آرنت بالتفكير هنا هو «النشاط الموجه نحو إنشاء المعنى». نشاط التفكير -تقترح آرنت- مختلف جذريا عن اكتساب المعرفة، لأنه لا يطمح في الوصول إلى نتائج قطعية. ورغم أن هدف التفكير ليس الوصول إلى حقيقة إلا أن أهميته والحاجة إليه تكمن في «كون التجربة أو الإدراك وحدهما لا يمكن أن يقدما لنا المعنى أو الانسجام»، وهو بذلك -أي التفكير- له غرضه الخاص. تكتب فيرهاين: «وعليه فإن للتفكير -وفقًا لآرنت- ‹تأثير مدمر ومقوّض محتوم لجميع المعايير والقيم والأبعاد المستقرة للخير والشر، وباختصار للعادات وقواعد السلوك التي تعالجها الآداب والأخلاق›».

يبدأ اعتراض فيرهاين على المقاربة القديمة لقيمة الأدب من كونها تستبعد الأعمال السردية غير الواقعية. لهذا تُجادل فيرهاين أولا، بأن قيمة السرد لا تأتي من اتصاله بالواقع، بل -على العكس- من انقطاعه، ووقوعه في «فضاء مُحايد». هذا التحييد يُغني العمل السردي بالأسئلة والمعاني الممكنة للعمل الأدبي، ويُعمل التفكير على نحو -في كثير من الأحوال- لا يُمكن التنبؤ به، بل ويتعدد بتعدد متلقيه. وهي تُجادل -ثانيا- أن غرضه ليس بحثي بل تفكيري.

هذه المقاربة -أعني النظر إلى السرد بوصفه فضاءً محايدًا أولا، وباعتباره بحثا عن المعنى لا المعرفة ثانيا- تتحدى حجة ميناند. إذ يُمكن -بالفعل- لمجالات أخرى أن تُخبر الإنسان عن التجربة، لكنها -على عكس السرد- لا تمده بما يلزم لابتكار المعنى. المعنى الذي يُقوض ويُعاد تشييده باستمرار دون التطلع إلى نتيجة قاطعة نُسميها حقيقة.

ملاحظات أخيرة

دائما ما أقول -ولعل الكثيرين يشتركون معي في ذلك- في أن لقراءة الأدب أثر شفائي. هذا الشفاء قادم من بناء المعاني الجديدة. أي تبني سرديات تُعين الفرد على الانسجام مع ما يطرأ في حياته. لا أعرف كيف كان بإمكاني التفكير في موضوع الاغتراب لولا سرد وجيه غال إن كان عبر يومياته أو روايته «بيرة في نادي البلياردو»، ولا أظنني كنتُ سأشفى مما عنته وفاة والدي لولا أنني قرأتُ كتاب كناوسغارد «موت في العائلة» والاستفادة من تقاطع التجربتين للخروج بخلاصة أنسجم معها.