أمريكا في مواجهة الصين وروسيا معا

15 أكتوبر 2022
15 أكتوبر 2022

ترجمة: أحمد شافعي

لو أنكم لم تلاحظوا، فاسمحوا لي أن أنبهكم إلى منعطف مثير في الأحداث: الولايات المتحدة الآن في صراع مع روسيا والصين في الوقت نفسه. وجدتي كانت تقول دائما «لا تقاتل روسيا والصين في وقت واحد». وكذلك هنري كيسنجر. لكن اليوم للأسف، ثمة حجة قوية بأن هناك مصلحة وطنية في مواجهة كلتيهما. ومع ذلك لا ينبغي أن يعتريكم أي شك: فنحن في أرض غير مطروقة مسبقا. وكل ما أرجوه هو ألا تكون هذه هي «حروبنا الأبدية» الجديدة.

الصراع مع روسيا غير مباشر، لكنه واضح، ومتصاعد، وعنيف. فنحن نقوم بتسليح الأوكرانيين بصواريخ ذكية ومعلومات استخباراتية لإرغام الروس على الانسحاب من أوكرانيا. ودونما انتقاص شيء من شجاعة الأوكرانيين، فإن لدعم الولايات المتحدة والناتو دورا هائلا في نجاحات أوكرانيا الميدانية. وليس عليكم إلا أن تسألوا الروس. ولكن كيف تنتهي هذه الحرب؟ ليس بوسع أحد أن يجيبكم.

لكنني اليوم أرغب في التركيز على الصراع مع الصين، وهو أقل وضوحا ولا مجال فيه للطلقات، لأنه يخاض في الغالب من خلال «الترانزستورز» التي تتراوح الآحاد والأصفار. لكنه صراع سيكون ذا أثر كبير ـ إن لم يكن أكبر من نتيجة الصراع بين روسيا وأوكرانيا ـ على توازن القوى العالمي. وليست له علاقة تذكر بتايوان.

هو صراع على أشباه الموصلات، وهي التكنولوجيا الأساسية في عصر المعلومات. فالتحالف الذي سيقوم بتصميم وتصنيع أذكى رقائق العالم سوف يمتلك أيضا أدق أسلحة العالم، وأذكى مصانعه، وأذكى أدواته الكمبيوترية الكمومية لكسر أي شكل تقريبا من أشكال التشفير. واليوم تحتل الولايات المتحدة وشركاؤها الريادة، لكن الصين عازمة على اللحاق بهما، ونحن الآن عازمون على منع ذلك. وابتدأت اللعبة.

في الأسبوع الماضي، أصدرت إدارة بايدن مجموعة جديدة من قيود التصدير هي عمليا بمثابة رسالة منا إلى الصين مفادها: «نحن نعتقد أنكم متخلفون عنا بثلاثة أجيال تكنولوجية في رقائق ومعدات الذاكرة والمنطق، وسوف نحرص على ضمان ألا تلحقوا بنا». أو كما قالها مستشار الأمن الوطني جاك سوليفان بشكل أكثر دبلوماسية: «في ضوء الطبيعة الأساسية لتقنيات معينة، من قبيل رقائق الذاكرة والمنطق المتقدمة، لا بد أن نحافظ على أكبر ريادة ممكنة» إلى الأبد.

قال بول تريلولو خبير الشؤون الصينية والتكنولوجية في شركة ألبرايت ستونبريدج الاستشارية لفايننشال تايمز إن «الولايات المتحدة أعلنت جوهريا الحرب على قدرة الصين على تطوير استعمالها الحوسبة رفيعة الأداء لتحقيق مكتسبات اقتصادية وأمنية». أو أن الولايات المتحدة ـ بحسب صياغة السفارة الصينية في واشنطن ـ في طريقها إلى «هيمنة علمية تكنولوجية».

ولكن أين تنتهي هذه الحرب؟ ليس بوسع أحد إجابتكم. لا أريد أن تمزقني الصين حين تتزايد استعمالا للتكنولوجيا من أجل السيطرة الكاملة محليا واستعراض القوة المخيف خارجيا. ولكن لو أننا الآن محبوسون في طريق منع التقنيات المتقدمة عن الصين إلى الأبد، مقلصين أي أمل في تعاون مع بكين مربح للطرفين في قضايا من قبيل المناخ والجريمة السيبرانية التي نواجه فيها تهديدات مشتركة والتي نمثل فيها القوتين الوحيدتين القادرتين على إحداث فارق، فأي عالم هذا الذي سوف ينتجه ذلك؟ ويجدر بالصين أن تطرح هذه الأسئلة أيضا.

كل ما أعلمه علم اليقين هو أن القواعد الصادرة يوم الجمعة عن وزارة التجارة في إدارة بايدن تمثل حاجزا جديدا وكبيرا عندما يتعلق الأمر بضوابط التصدير التي ستمنع الصين من القدرة على شراء أغلب أشباه الموصلات المتقدمة من الغرب أو المعدات اللازمة لتصنيعها بمعرفتها.

تمنع القواعد الجديدة أيضا أي مهندس أو عالم أمريكي من مساعدة الصين في تصنيع الرقائق دونما موافقة محددة حتى لو أن هذا الأمريكي يعمل على معدة في الصين غير خاضعة لضوابط التصدير. تشدد القواعد أيضا من عمليات التتبع لضمان ألا تقع الرقائق المصممة أمريكيا والمباعة لشركات مدنية داخل الصين في أيدي الجيش الصيني. ولعل الأكثر إثارة للجدل هو أن فريق بايدن أضاف «قاعدة إنتاج مباشر أجنبي» أشارت فايننشال تايمز إلى أنها «استعملت للمرة الأولى من خلال إدارة دونالد ترامب ضد مجموعة هواوي التكنولوجية الصينية وهي «عمليا تمنع أي شركة أمريكية أو غير أمريكية من إمداد كيانات صينية مستهدفة بمعدات أو برامج تحتوي سلاسلها الإمدادية تكنولوجيا أمريكية».

هذه القاعدة الأخيرة ضخمة، لأن أكثر أشباه الموصلات تقدما يتم تصنيعها من خلال ما أسميه بـ»التحالف التكيفي المعقد» من شركات من أمريكا وأوروبا وآسيا. ولكم أن تتصوروا الأمر على النحو التالي: شركات آيه دي إم وكوالكوم وإنتل وآبل ونفيديا تبرع في تصميم الرقائق الحاوية مليارات من الترانزستورات المكدسة معا بتقارب بالغ لإنتاج القوة المعالجة التي تسعى إليها. وتقوم شركتا سينوبسيس وكادينس بتصنيع أدوات تصميم كمبيوترية متطورة يرسم عليها مصنعو الرقائق أحدث أفكارهم. وتصنع شركة أبلايد ماتريالز الخامات وتعدلها لصياغة مليارات الترانزستورات وكوابل الربط في الرقائق. وتقدم شركة آيه إس إم إل الهولندية أدوات الطباعة بالشراكة مع كثيرين منهم شركة زيس سميت الألمانية المتخصصة في العدسات البصرية التي ترسم على رقائق السيليكون في تلك التصميمات باستعمال كل من الضوء فوق البنفسجي العميق والمتطرف ـ وهو عبارة عن موجات شديدة القصر يمكنها طباعة تصميمات شديدة الضآلة على الرقيقة. كما أن شركات إنتل ولام ريسيرش وكيه إل آيه وشركات من كوريا إلى اليابان تقوم بأدوار أساسية في هذا التحالف.

الغاية من هذا هي أنه كلما دفعنا حدود الفيزياء وعلم الخامات لتكديس المزيد من الترانزستورات في رقيقة للحصول على المزيد من القوة لمواصلة تطوير الذكاء الاصطناعي، قلّت احتمالية أن تبرع أي شركة أو أي بلد مفرد في جميع أجزاء عملية التصميم والتصنيع. فالأمر يستلزم التحالف كله. والسبب الذي يجعل شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات المعروفة بـ تي إس إم سي المصنِّع الرئيسي لأشباه الموصلات في العالم هو أن كل عضو في هذا التحالف يثق فيها ويعهد إليها بأخص أسرار صنعته لتصهرها هي جميعا في النهاية وتفيد بها المجموع له.

ولأن شركاء التحالف لا يثقون في أن الصين لن تسرق ملكيتهم الفكرية، فلم يبق للصين إلا السعي إلى استنساخ مجموعة رقائق نجوم التصنيع مستعملة في ذلك تقنياتها القديمة ومنها تقنية 28 نانوميتر من شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات التي ترجع إلى عام 2017.

حتى وقت قريب، كان يعتقد أن الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات ـ وهي المصنّع الرئيسي الصيني للرقائق ـ عالقة عند هذا المستوى الرخيص برغم زعمها أنها أنتجت بعض الرقائق من مستوى 14 نانوميتر بل و7 نانوميتر عن طريق تزوير بعض طباعات ديب يوفي القديمة من شركة آيه إس إم إل. غير أن خبراء أمريكيين أخبروني بأن الصين لا تستطيع أن تنتج هذه الرقائق إنتاجا كثيفا بدقة دونما أحدث تقنيات آي إس إم إل المحظورة الآن على الصين.

وقد حاورت هذا الأسبوع وزيرة التجارة الأمريكية جينا ريموندو التي تشرف على كلٍّ من ضوابط التصدير الجديدة على الرقائق وعلى 52.7 مليار دولار وفرتها إدارة بايدن أخيرا لدعم مزيد من البحوث الأمريكية على الجيل القادم من أشباه الموصلات ولإعادة تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة إلى الولايات المتحدة. ترفض ريموندو فكرة أن القواعد الجديدة ترقى إلى مستوى العمل الحربي.

قالت لي في مكتبها إن «الولايات المتحدة كانت في وضع غير مقبول. نحن اليوم نشتري 100% من رقائقنا المنطقية المتقدمة من الخارج ـ 90% من الشركة التايوانية و10% من سامونج في كوريا». (وهذا أمر جنوني، لكنه حقيقي).

«نحن لا نصنع في الولايات المتحدة أيا من الرقائق التي نحتاج إليها للذكاء الاصطناعي، وللجيش، وللأقمار الصناعية، وللبرامج الفضائية» ناهيكم عن ما لا حصر له من التطبيقات غير العسكرية التي تحرك اقتصادنا. وقالت إن قانون الرقائق الأخير كان «مبادرتنا الهجومية» لتقوية نظامنا البيئي الابتكاري كله بحيث يتم تصنيع أغلب الرقائق المتقدمة داخل الولايات المتحدة.

قالت إن فرض ضوابط تصدير جديدة على الصين في تقنيات تصنيع الرقائق المتقدمة «كان استراتيجية دفاعية. أما الصين فلديها استراتيجية صهر العسكري بالمدني» وبكين أوضحت «أنها تعتزم أن تكتفي ذاتيا اكتفاء تاما في التقنيات الأكثر تقدما» لتسيطر على كل من السوق الاستهلاكي المدني والميدان الحربي في القرن الحادي والعشرين. «ولا يمكن أن نتجاهل نوايا الصين».

لذلك، من أجل أن نحمي حلفاءنا، وجميع التقنيات التي ابتكرناها فرديا وجماعيا، «فإن ما فعلناه كان خطوة منطقية لمنع الصين من الوصول إلى الخطوة التالية». إن الولايات المتحدة وحلفاءها يصممون ويصنّعون «أكثر رقائق الحوسبة الفائقة تقدما، ولا نريدها أن تقع في أيدي الصين فتستعمل لأغراض عسكرية».

وانتهت ريموندو إلى أن تركيزنا الأساسي ينصب على «اللعب بطريقة دفاعية، من أجل أن نكون أسرع ابتكارا من الصينيين. لكننا، في الوقت نفسه، سوف نواجه الخطر المتزايد الذي يمثلونه بحماية ما يلزم أن نحميه. من المهم أن نخفف التصعيد حيثما نستطيع ونمارس الأعمال التجارية حيثما نستطيع. لا نريد صراعا. لكن علينا أن نحمي أنفسنا بأعين مفتوحة».

ذكرت صحيفة جلوبال تايمز التابعة للحكومة الصينية أن الحظر لن يؤدي إلا إلى «تقوية إرادة الصين وزيادة قدرتها على الوقوف بمفردها في العلوم والتكنولوجيا». ونقلت بلومبرج عن محلل صيني لم يذكر اسمه قوله إنه «لا مجال للمصالحة».

فمرحبا بكم في المستقبل ..

توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».

«خدمة نيويورك تايمز» ترجمة خاصة بجريدة «$»