الخطابات الفكرية المعاصرة
يعيش العالم اليوم لحظة وجودية فارقة، فالمجتمعات البشرية تتداخل، والحدود الجغرافية تتلاشى، والتواصل بين الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعية المختلفة يتشابك، والهجرات الجماعية لا مثيل لها، إنه عصر التواصل الكوني والامتزاج المفتوح، ومع ضبابية الحالة الثقافية واضطراب الخطابات الفكرية التي حدت بالفيلسوف البولندي زيجمونت باومان إلى تسميتها بـ «الحالة السائلة»، إلا أنه يمكننا تبين معالم بعض الخطابات التي تشكل هوية اللحظة والقوى الفاعلة فيها.
لا تمثل اللحظة التاريخية التي تعيشها المجتمعات اليوم انقطاعا عن حركة التاريخ بل هي حلقة في سلسلته الطويلة التي تصعد أحيانا وتهبط أخرى في دورات أسماها الفيلسوف الألماني شبنغلر بـ «دورات التاريخ»، فما نحن عليه اليوم ليس سوى نتيجة لأفكار عصر النهضة ثم الأنوار التي أدت بدورها إلى ما سماه هيجل بـ«العصور الحديثة» التي تميزت بانتشار الديمقراطية، وحقوق الإنسان والإعلاء من مكانة العقل، وتقديم اليقين العلمي على التفسير الديني، وحلول الآلة مكان العامل البسيط، وشيوع الأسواق الحرة، الأمر الذي أدى إلى تنافس بين الدول انتهت في بدايات القرن العشرين بالحروب العالمية الأولى والثانية.
لقد أدت الحروب العالمية إلى الشعور أن الحداثة ليست سوى مشروع قمع للبشرية، وأن سلطة العقل ليست سوى انعكاس لتصورات أهل السلطة، وأن اليقين العلمي وهم جديد، وأن الدولة القومية هي أداة لقمع الأقليات، وأن ما يسمى بالحقوق الطبيعية للإنسان ليست سوى محاولة لفرض هيمنة غربية على ثقافات العالم المتعددة، وقد عرفت هذه المرحلة بما بعد الحداثة، ويؤرخ الفيلسوف الألماني يورجن هايبرماس أول ظهور لها في خمسينيات القرن العشرين، وإن كان أول ظهور للمصطلح مع المفكر الفرنسي ليوتار عام ١٩٧٩، وقد بلغت ما بعد الحداثة ذروتها أي إلى «الحالة السائلة» بتعبير باومان مع دخول البشرية إلى عوالم الإنترنت والتواصل الاجتماعي.
لقد أدت الحالة السائلة في المجتمعات البشرية إلى بروز تيارين جارفين، الأول هو التيار العنصري الديني والتيار الثاني هو الفوضوي أو اللاسلطوي «الأناركي»، وكل واحد من هذين التيارين يضم في داخله طيفا من الاتجاهات التي تتداخل مبادئها أو تتقاطع مصالحها من أجل إبراز الذات وإلغاء الآخر، يتشكل التيار العنصري الديني من الجماعات القومية والدينية المتطرفة التي ترى في الأقليات خطرا، وفي المختلف تهديدا، وفي المهاجرين غزاة أتوا لتغيير التركيبة السكانية والدينية للمجتمع، وفي التيارات الوسطية العقلانية معولا لهدم المجتمعات وتحطيم الأديان، ولعل أبرز الحركات التي يتداخل فيها القومي بالديني هي الحركة الهندوسية القومية «Hindutva»، وبدرجة أقل قومية حركات الإسلام السياسي والمسيحية الخمسينية «Pentecostal conversion».
أما التيار الفوضوي أو اللاسلطوي «الأناركي» فهو أيضا يحتوي على عدة اتجاهات متباينة مثل حركة الاشتراكية التحررية التي يمثلها تشومسكي، والليبرتارية واليسار التقدمي الذي يتصاعد تمثيله في الحزب الديمقراطي الأمريكي، وحركات حماية الحيوانات والبيئة، والحركات النسوية، وحركات الهوية الجندرية أو الجبت «LGBT»، وهي جميعا تتفق على مبدأ رفض التسلسل الهرمي في الأسرة والمجتمع والاقتصاد، ففي الدولة التي يدعو بعض هذه الاتجاهات إلى إلغائها وإعادة تنظيم المجتمعات البشرية بطريقة تحقق ما يعتبرونه «المساواة المطلقة».
تتميز الحركات المتطرفة العنصرية والفوضوية بسمات تجعلها أكثر قدرة على البروز والانتشار، فهي الأكثر تنظيما، والأكثر حضورا في المحافل الجماهيرية، والأكثر قدرة على حشد الأتباع وممارسة الضغط ضد الخصوم، كما تتميز بالولاء الشديد للجماعة، والحماسة الجارفة للفكرة، بالإضافة إلى أن التيارات المتطرفة المعاصرة تتميز بالجاذبية للشباب الذين يعشقون الآراء الحدية ويهيمون بالمواقف الحاسمة، ويتطيرون من الآراء القائمة على التعددية والاختلاف.
وهي تستخدم من أجل تحقيق ذلك عدة وسائل أهمها الخطاب الشعبوي، الذي يتميز بالبساطة إلى حد السطحية والمباشرة إلى درجة الإسفاف والتصنيف الحاد إلى حد شيطنة الآخر وتسقيطه، فمن يختلف معهم فهو إما جاهل أو شرير أو الاثنان معا، وهي غير متسامحة مع أي معارضة لها، حيث يتم استهداف المعارضين اجتماعيا وقانونيا من خلال تحريض المجتمع والسلطة ضد الخصوم، وتعتبر مواقع التواصل الاجتماعي أفضل المنصات لممارسة هذه التيارات لوسائل الترغيب للجماهير والترهيب للخصوم.
لقد استفادت التيارات الفوضوية خاصة تلك التي تدعو إلى المساواة المطلقة من حالة السيلان الثقافي التي كرستها ثقافة ما بعد الحداثة، حيث الفردانية المفرطة، وتسليع الأخلاق والمبادئ، واعتبار الحياة مجرد سوق افتراضي يمكن للفرد اختيار السلعة الفكرية واستبدالها وقتما شاء، فبنت عليها فكرة التسامح مع المختلف، واعتبار الإنسانية هي المقدس الذي لا ينبغي الاعتصام إلا به، بيد أن هذا الخطاب لا يعدو أن يكون سلّما تستعيره تلك الخطابات للصعود الجماهيري ثم تتخلص منه بمجرد التعارض معها كاشفة حقيقة آحاديتها وضيق أفقها بالمختلف ورغبتها الصارمة في الانفراد بالقيادة وصنع القرار.
الأمر ذاته لدى أطياف التيار العنصري، فهي تستخدم آليتين أساسيتين للحصول على الطاعة المطلقة وحشد مزيد من الأتباع، الأولى تتمثل في التحذير من المخالف، وفي بث الرهاب الاجتماعي ضد أي فكرة فريدة أو دعوى جديدة، والمتجددون فكريا والمهاجرون هم المتهم الأول بمحاولة تغيير المجتمع والانقلاب على قيمه، بل وفي بعض الأحيان احتلال الدولة واستعباد سكانها، الآلية الأخرى تتمثل في شعارات الممانعة والجهاد لتأجيج عواطف الشباب المتحمس بينما يستلذون هم وأبناؤهم برغد العيش ونعيمه.
إن هذا العصر الذي يمكن تسميته بـ «عصر النتوءات» يمثل بداية نتوء طفرات شوهاء لمرحلة ما بعد الحداثة، وقد اكتسبت هذه التيارات بعض الشخصيات الكبرى التي كانت محسوبة على التيارات الوسطية المحافظة أو الليبرالية، إلا أن المتغيرات العالمية وخاصة ما بعد جائحة كورونا وما سببته من ركود اقتصادي وإغلاقات للمدن والأسواق ودور العبادة قد أفقدتها اتزانها وجرفتها نحو التيارات العنصرية أو الفوضوية، بيد أن هذه التيارات بالرغم من ضجيجها الهادر وعلو نبرتها، إلا أنها لا تكاد تمثل شيئا مذكورا في النسيج الحقيقي للمجتمع، فنسبتها في أحسن الأحوال لا تتجاوز نسبة تمثيل المسيحية الخمسينية في منتصف عام 2022 داخل الكونجرس الأمريكي (عضوان)، أو نسبة الجبت (11 عضوا)، أو نسبة اليسار التقدمي المتطرف (6 أعضاء)، أي (19 من 535 عضوا) أي ما نسبته 3.6%، أما الشريحة الأكبر في المجتمع الأمريكي فهي تتبع التيارات الوسطية المحافظة أو الليبرالية، وذات الأمر نجده في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تمثل التيارات الوسطية الكتلة الأكبر في المجتمع باعتبارها الأكثر قدرة على الحفاظ على قيم الأسرة والدولة.
يتوهم العنصريون المتطرفون أنه يمكنهم كسب قلوب الناس من خلال الاتكاء على النصوص التراثية، بينما يزعم الفوضويون أنه يمكنهم اختراق الوعي المجتمعي باستخدام مفردات التعددية والتسامح والإنسانية، وكلا الطرفين مخطئ لأنهما يتخيلان الحالة المجتمعية بسيطة التركيب، لينة المراس، سهلة التفكيك وقابلة لإعادة التشكل والتركيب، لكن المجتمع أكثر تعقيدا مما يظنون فهو أكثر تمسكا بوسطيته وأكثر مقاومة للتحول إلى المسوخ الفكرية التي يبشرون بها.
إن الأفكار العنصرية والفوضوية ليست بالأمر الجديد على المجتمعات البشرية، فقد مرت البشرية في بعض دوراته بتجارب عنصرية أهلكت المجتمعات وفوضوية دمرت الدول، ولعل الجديد يتمثل في الظرف التاريخي السياسي والاقتصادي الذي انتج الحالة التفكيكية السائلة لما بعد الحداثة، وخاصة مع التحول الرقمي الهائل الذي جعل المجتمعات الافتراضية أكثر تأثيرا لدى بعض الأفراد من مجتمعاتهم الواقعية، إلا أن المجتمعات البشرية ستتكيف تدريجيا مع هذه المتغيرات وستستطيع الحفاظ على بنيتها التي تشكلت عبر تاريخها الممتد لعشرات الآلاف من السنين، وستكون قادرة على امتصاص تسونامي التيارات الفوضوية وزلزال التيارات العنصرية، وستظل الوسطية نجم الشمال الذي تهتدي به سفينة نوح التي تحمل البشر في خضم الطوفان الهادر من المتغيرات.
زكريا بن خليفة المحرمي طبيب وكاتب عماني في القضايا الفكرية
