التضخم في أمريكا
ترجمة قاسم مكي
تُظهِر البيانات الأمريكية التي نشرت يوم الأربعاء «12 يناير» أن التضخم في شهر ديسمبر ارتفع بنسبة 7%، مسجلا بذلك أعلى معدل له منذ عام 1982.
المُحزن أن هذا الارتفاع سيستمر في الغالب لبعض الوقت، والمُفرِح أن بعض الخبراء على الأقل يستوعبون أخيرا سبب ارتفاع التضخم بهذا القدر. إنه الإنفاق المفرط من أجل التخفيف من آثار الجائحة.
ارتفعت الأسعار خلال العام الماضي في كل فئة رئيسية من فئات الإنفاق الاستهلاكي تقريبا. وركزت تقارير الأخبار على الأصناف الكبيرة مثل البنزين الذي ارتفاع سعره بنسبة 50% والسيارات المستعملة بنسبة 38%.
لكن تقرير الأسعار الأخير يظهر تفشي التضخم. فأسعار الغذاء ارتفعت بنسبة 6.3%. وأعلاها ارتفاعا أسعار اللحوم والفراخ بنسبة 12.5%. كما ارتفعت أسعار الأثاثات وأغطية الأسِرّة بنسبة 13.8%. وزادت أسعار الملبوسات بنسبة 5.8%.
أما من ينوون السفر في الإجازة فيواجهون ارتفاعا في أسعار الفنادق والموتيلات بنسبة 27.6% وسيارات الإيجار بنسبة 36%. ومن يرتبون للانتقال إلى مسكن آخر سيجدون أن أجرة شاحنة الأغراض والأثاث ارتفعت بنسبة 9.2 خلال عام. أما من يفضل لزوم بيته فسيدفع مقابل الإضاءة مبلغا يزيد عن 6.3% عما كان يدفعه قبل عام. الخلاصة هي أن الأسعار ترتفع بسرعة في كل مجال.
بخلاف ما كان في الصيف، يعتقد الخبراء الآن أن هذا المستوى من التضخم سيظل معنا لبعض الوقت. وهذا الشهر أخطر. جيروم باول، رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي: مجلس الشيوخ يتصور رفعا لأسعار الفائدة من البنك في وقت مبكر من هذا العام لاجتثاث التضخم. وكان قد استبعد ذلك في العام الماضي عندما بدأت الأسعار في الارتفاع لأول مرة.
في عام 2021 ، قيل للأمريكيين أن التضخم مؤقت وأنه عامل يتعلق بالتقلبات الموسمية وبأخطاء إحصائية ناجمة عن إغلاقات الربيع السابق ومتاعب سلسلة الإمداد.
لكن باول أقرّ أخيرا بالحقيقة. فقد قال: «ما لدينا الآن هو تفاوت (عدم تطابق) بين الطلب والعرض».
بالطبع لدينا ذلك التفاوت. فالطلب مرتفع لأن الأمريكيين لديهم أموال أكثر لإنفاقها قياسا بأي وقت مضى. لقد كدَّس الناس من كل مستويات الدخول مدخرات أثناء انتشار الجائحة بلغت في مجموعها 2.7 تريليون دولار. حصلوا على هذه الأموال لأن الحكومة الفديرالية منحت، طوعا أو كرها وعبر عدة دفعات، شيكاتِ تحفيز لكل فرد تحت مستوى دخل معين سواء تضرر أو لم يتضرر من الجائحة.
أيضا ضخت مدفوعاتُ الائتمان الضريبي الموسع للأطفال الذي انتهي سريانه مؤخرا أموالا بشكل مباشر للمستهلكين.
والنتيجة هي إنفاق استهلاكي قياسي في ارتفاعه على الرغم من أن التوظيف لا يزال أقل من مستويات ما قبل الجائحة.
من المفيد إمعان النظر في ذلك الإنفاق لتحديد ما يحدث لنا. يذكر بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس أن إنفاق الأمريكيين ارتفع بمعدل سنوي إلى 16.4 تريليون دولار في نوفمبر 2021 من 14.8 تريليون دولار في فبراير 2020 وقبل تفشي الجائحة مباشرة. وهذا الارتفاع يشكل زيادة بحوالي 1.6 تريليون دولار في أقل من سنتين. وكان الإنفاق الاستهلاكي احتاج إلى أكثر من عامين لكي يرتفع بهذا المقدار قبل الجائحة.
إلى ذلك، رفع المستهلكون إنفاقهم بحوالي تريليون دولار تقريبا منذ مارس. وهذه أسرع زيادة مسجلة في الإنفاق بهذا الحجم. وكان قد توجب مرور 21 شهرا لكي يضيف الاقتصاد ذلك القدر الكبير من الإنفاق قبل الجائحة. لذلك لا عجب أن تعاني سلاسل التوريد لمواكبة (الطلب).
الأمريكيون ليسوا بأي حال على وشك إنفاق الـ2.7 تريليون دولار من المدخرات الفائضة. وعلى الرغم من هبوط مستويات الحسابات المصرفية إلا أن العائلات لا تزال تحتفظ بما يقرب من 3.5 تريليون دولار نقدا وودائع جارية. وهذا المبلغ يزيد بأكثر من تريليون دولار عن الذروة التي بلغتها هذه الحسابات خلال الجائحة وأكثر بحوالي تريليوني دولار عن أعلى مستوى لها في أي وقت من الأوقات خلال الأعوام العشرين الماضية.
وإذا اتبع المستهلكون النماذج السابقة سينخفض هذا المبلغ إذ يعلم الناس أنهم بمستطاعهم شراء المزيد من الأشياء التي يريدونها. وسيعقب ذلك المزيد من التضخم.
هنالك طريقتان فقط لوضع حد لذلك. أولاهما وقف ضخ النقود في الاقتصاد. كان التضخم قد شهد ارتفاعا في نهاية الحرب العالمية الثانية مع انتهاء ترشيد الاستهلاك وإنفاق الأمريكيين الأموال التي ادخروها أثناء الحرب.
لكن نهاية الحرب كانت أيضا تعني أن «صنبور» أموال الحكومة الفيدرالية لم يعد يضخ. وهبط التضخم مرة أخرى عندما انتهت فورة الاستهلاك التي غذتها المدخرات.
هذا يعني أن السيناتور (الديمقراطي) جو مانشين على صواب. فأمريكا لا يمكنها إجازة مشروع قانون «إعادة البناء على نحو أفضل» أو الإجراءات الباهظة التكلفة التي من شأنها سكب المزيد من الوقود على الاقتصاد التضخمي.
الطريقة الثانية هي تقييد الإنفاق الاستهلاكي برفع أسعار الفائدة. هذا سيجعل الاحتفاظ بالأموال النقدية أكثر جاذبية ويقلل الطلب. لكنه أيضا سيبطئ النشاط الاقتصادي. وإذا اتسم تطبيق هذه الطريقة بالتشدد قد يدخُل الاقتصاد في انكماش. والخوف من (هذا الانكماش) هو ما منع بنك الاحتياط الفيدرالي من رفع أسعار الفائدة حتى الآن مما قاد إلى الوضع الذي نحن عليه في الوقت الحاضر.
سبق أن مرَّت الولايات المتحدة بعقد (عشرة أعوام) من التضخم المرتفع قبل أن يقرر الرئيس رونالد ريجان ورئيس بنك الاحتياط الفيدرالي بول فولكر معا المخاطرة بإدخال الاقتصاد في انكماش حاد لتخليصه من ذلك التضخم. نجحت مقامرتهما وقادت إلى 40 عاما من الاستقرار النسبي للأسعار وإلى نمو اقتصادي عالمي ضخم.
الآن على بنك الاحتياط والكونجرس العمل معا في انسجام لمنع التضخم من الانفلات. وإذا لم يفعلا ذلك سيتوجب على واضعي السياسات في المستقبل التدخل. وستكون العواقب قاسية.
هنري أولسن كاتب عمود في واشنطن بوست وكبير زملاء في مركز الأخلاق والسياسة العامة
كدَّس الناس في أمريكا من كل مستويات الدخول مدخرات أثناء انتشار الجائحة حصلوا على هذه الأموال لأن الحكومة الفديرالية منحت -طوعا أو كرها وعبر عدة دفعات- شيكاتِ تحفيز لكل فرد تحت مستوى دخل معين سواء تضرر أو لم يتضرر من الجائحة
